رواية المخطوطة التاريخيَّة واللعب خارج النص

ثقافة 2023/05/28
...

 أحمد الشطري

شكلت المخطوطات التاريخيَّة بمختلف أنواعها سواء كانت مخطوطة كتابية أم صورية موضوعة مركزية لروايات عديدة ظهرت بشكل ملفت في أواخر ثمانينات وتسعينات القرن الماضي وما تلاهما، حتى أصبحت توصف بأنها ظاهرة تناسخية رغم اختلاف الأحداث الدرامية والتقنيات الفنية التي تختص بها كل رواية، والأسلوب الخاص الذي يتميز به كل كاتب، ولكنها في المحصلة تستخدم ذات الموضوعة كمدار تدور حوله ومن خلاله أحداث الرواية.

ورغم هذا التناسخ في توظيف هذه الموضوعة إلا أن هناك اختلافات واضحة في طريقة التعامل معها بين الروايات التي اتخذت منها فضاء للعبتها السردية.

فقد جعل بعضهم موضوعة المخطوطة مجرد بؤرة وهمية مثيرة للتساؤل وانتظار حل شفرتها، بينما كانت لعبة السرد تجري خارج إطار نص المخطوطة المفترضة، أما البعض الآخر فقد عمد إلى تفكيك المخطوطة، وخلق خيوط رابطة تتشابك مع خيوط المخطوطة، ومن ثم فإن تلك المخطوطة بمرموزاتها أصبحت جزءا فاعلا من لعبته السردية. وسنحصر حديثنا هنا بإشارات عابرة لبعض التقنيات التي استخدمت في مجموعة من الروايات التي اتخذت من هذه الموضوعة محورا للعبتها السرديَّة.  في عام 1980م صدرت رواية اسم الوردة لأمبرتو إيكو وقد ترجمت لعدة لغات ولاقت رواجا كبيرا وتحولت إلى فيلم فيما بعد، وقد استخدم إيكو موضوعة المخطوطة كمثابة تنطلق منها أحداث الرواية، ومما يلاحظ أن إيكو قد نقل اللعبة السرديّة إلى داخل المخطوطة، فجعل من القارئ مشاركا له في قراءة محتوى المخطوطة والتعرف على أسرارها، وهو ما أكسبها نوعا من التشويق والترقب؛ حتى أوهمت القارئ بأنها صورة تاريخية حقيقية وليست متخيلة. 

وفي عام 1986م صدرت رواية (الراووق) لعبد الخالق الركابي ثم تبعها بروايتين أخريين في ذات الموضوعة هما (قبل أن يحلق الباشق (1990) و سابع أيام الخلق (1994). وقد اتخذت هذه الروايات من (مخطوطة الراووق أو مخطوطة السيد نور) موضوعة تدور حولها أحداث الروايات الثلاث باعتبار أن تلك المخطوطة تنطوي على محتوى سري حرص السيد نور أن يخفيه عن الآخرين، فكانت أحداث الروايات تقع خارج محتوى المخطوطة؛ لتبقى تلك المخطوطة محتفظة بسريتها وغموض محتواها.

وفي عام 1988م صدرت رواية (سمرقند) للروائي اللبناني الأصل أمين معلوف، وقد شكلت مخطوطة رباعيات الخيام محورا تدور حوله أحداث روايته، من دون أن يكون لمحتوى المخطوطة أثرا في سيرورة الأحداث، وهذ ما نجده أيضا في رواية الروائي العراقي علي بدر (الجريمة والفن وقاموس بغداد) الصادرة في 2010م، والتي افترضت وجود مخطوطة ضائعة لإحدى رسائل أخوان الصفا وانطلاقا من هذه الموضوعة راح الروائي ينسج أحداث روايته، من خلال افتراض وجود جماعة سرية تتبنى أفكارا وقيما خاصة. ومثل هذه الفرضية ما تبنته رواية (شيفرة دافنشي) لدان براون والتي صدرت عام 2003، أما إليف شافاك فقد كانت روايتها تختلف من حيث الموضوعة والمعالجة رغم أنها تعتمد ما يشبه المخطوطة كموضوعة رئيسة لروايتها، بيد أنها استخدمت تقنية التداخل بين حدث المخطوطة كمحور متحرك وفاعل في البناء السردي، وبين الواقع الراهن والذي تدور فيه أحداث بطلي الرواية المعاصرين. وإذا كانت رواية إليف شافاك تختلف نوعا ما في تعاملها مع موضوعة روايتها من خلال تداخل الأحداث والأزمنة، فإن روايتي دان براون وعلى بدر تتشابهان إلى حد كبير سواء في البناء على المخطوطة أم في افتراض جماعة سرية تسعى إلى فرض رؤاها واعتقاداتها على الآخرين، غير أن ثمة اختلافا جوهريا بين الروايتين يتمثل بأن شيفرة دافنشي استخدمت تقنية تفكيك المخطوطة وتبادل المحتوى التأويلي لتلك اللوحات مع القارئ، وهو ما خلق نوعا من الإقناع بحقيقة تلك التأويلات، وقد عزز ذلك إصرار براون على صحة محتوى الوثائق التي تحدثت عنها الرواية، بينما أبقت رواية بدر على سرية وغموض المخطوطة والمتمثلة بالرسالة الثالثة والسبعين المفترضة لرسائل أخوان الصفا. وفي جانب آخر نجد أيضا أن ثمة تشابها في المبنى العام لمسار أحداث روايتي أمين معلوف ومحمد حسن علوان، حيث أن كلا الروايتين تبدوان مشغولتين بالأمكنة والحياة الاجتماعية، وقد قدمتا نوعا ما وصفا أنثربولوجيا بغض النظر عن افتراضية أو حقيقة ذلك الوصف، إلا أنه كان محملا بالإثارة والجذب، كما أنهما تختلفان من حيث الزمان الذي يسير فيه الحدث، ولكن المحرك يبقى متشابها إلى حد ما رغم أن الأولى تتخذ من مسار البحث عن المخطوطة هدفا رئيسا، بينما اختار محمد حسن علوان أن يمزج بين الحدث السيري الواقعي والمتخيل لابن عربي وبين البحث عن المخطوطة في الزمن الحاضر وهو حدث يبدو ثانويا. ولا شك أن هناك العديد من الروايات التي استخدمت موضوعة المخطوطة سواء بأدبنا العربي أم الآداب الأجنبية، بيد أن كل رواية من تلك الروايات كانت لها مميزاتها وسلبياتها وأدواتها التشويقية ورمزياتها الخاصة.وقد يرى البعض أن الاستخدام المتكرر للموضوعة هو فعل تناسخي أو تقليد سلبي، بينما يمكن أن يبرر آخرون ذلك؛ بأن الأحداث والمعالجات تختلف وإن كان هناك تشابه في المحور المحرك لها، ومع كل ما أشرنا له فإن جميع تلك الروايات انطوت على جوانب تشويقية، وصور مبهرة وتقنيات ذات مستوى عال، خلقت نوعا ما سمات وخصوصية أكسبت كل واحدة من تلك الروايات فرادة وجمالية، شكلت قوة جذب للمتلقي استطاعت أن تنسيه تشابه أو تقارب الموضوعة المحورية.