الفن قادر على استنطاق الذات

ثقافة 2023/05/29
...

  نصير الشيخ


يجدُ أن الفن هو القدرة على استنطاق الذات والتعبير عن دواخل الإنسان وملكاته ورصد ما يحيطه، وهو أي الفن ترجمة ثرة لأحاسيسه وانفعالاته، وكلمة فن في قاموسه تحمل قيمة جمالية ومهارة وحرفة ومحاكاة على حد سواء كلها تصبُّ في حقل الإبداع.

النحَّات محمد جاسم الرسّام المولود في مدينة العمارة عام 1973، والمتخرج في معهد الفنون الجميلة في البصرة، والحاصل على بكالوريوس تربية فنية، والمشرف الفني في قسم النشاط الرياضي والمدرسي لتربية ميسان. تبدأ اشتغالاته النحتيّة ومادتها الأوليّة "الطين/ الصلصال" هذه المادة التي تطامنت مع تاريخ وادي الرافدين وسهله الرسوبي، ونطقت بفنها الخالص على يد سلسلة ذهبيّة من النحاتين العراقيين، وها هي أصابع محمد الرسام تكمل صنع منحوتاتهِ، ذلك أن الطين هو خامة لتجسيد فكرة الفنان وهواجسهِ، وهو يبقى المادة الأولية المستحصلة من جروف نهر دجلة، وتوفرها يعني امتداد مساحة التشكيل فيها وعليها. أي أن البيئة هي من تصنع قوانينها الخاصة في انتاج العمل الفني. وربما تراود الفنان فكرة تنفيذ عمل ما على خامة "حجر البازلت" لكن هذا الحجر لا يتوفر في مدينة الفنان، فضلاً عن غلائه وندرته. وتأخذه أفكاره وأصابعه لتنفيذ أعمال بأكثر من مادة منها البرونز والخشب والجبس وكلها تزخرُ بطاقتها الإبداعيّة.

ولأنّه امتلك حرفة التنفيذ للعمل النحتي وأبعاده الأساسية وأجاد بأكثر من عمل مجسّم وأكثرها من حيث الحجم، ألا وهو مجسّم الشاعر العربي "الكميت الأسدي" والذي تبنتهُ دائرة منتوجات ميسان النفطية ونصبتهُ في محطة وقود ناحية كميت. من هنا يرى النحات محمد الرسام أن الفنان يجد سعادتهُ بإضافة جمالية للمدينة التي يسكن فيها، كي يترك أثراً للأجيال المقبلة وطموحه المستمر هو إقامة عمل نحتي أو نصب مجسّم في واحدة من ساحات مدينة العمارة، لكن يبدو أن الظروف والسياسات غير مهيأة لاستقبال هكذا أفكار، ومن ثم العمل على تنفيذها من قبل الجهات المسؤولة.

ولأنَّ الفن هو عالم واسع من الأفكار التي تأخذ طريقها للتشكل فنيا وبمختلف الخامات، لذا نجد في محترفه عشرات المصغرات النحتيَّة والتي تحيل الى الاختزال الشكلي وتذهب باتجاه الحداثة في أسلوبها ورمزيتها، وعمله النحتي "ميسان" هو تجسيد حي للبيئة الجنوبيَّة برموزها وعلاماتها، حيث مفردات "المشحوف/ القصب/ المرأة الريفية ...الخ"، هذا العمل اشترك في معرض النحت العراقي. البحث عن معطيات جديدة في الفن هو ديدن الفنان المثابر والذي يستقي أفكاره من الواقع تارة ومن الفلسفات والرؤى والتراث تارة أخرى، ولنا في عمله النحتي المستقى من الآية القرآنية (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) هو اشتغال مبهر بحق من حيث التقنية الحاملة للكثير من الدلالات وباختزالٍ عالٍ يليق بسمو الآية وبلاغتها القرانيَّة. هذا العمل الذي حقق حضوره على مستوى التلقي وتفسيرات الذائقة الجمعيَّة.

ويرى النحَّات أن العمل النحتي هو الناطق بتاريخهِ والمدوّن لخلود صانعهِ، فالنصب الكبيرة والتماثيل لا بدَّ أن تختار فضاءها الأرحب في ساحات المدينة كي تكون معلماً حضاريا يشير الى رقيّ المجتمع واحترام تجربة الفنان والذي يبقى هاجسهُ مستمراً لانتاج أفكار وأعمال متجددة تحمل سمة الحاضر راسمة أبعادها المستقبليَّة. اشتغالات الرسام النحتيَّة هي مشروع دائم للتحرر في فضاء الفن، وهي بالوقت نفسه استكمال ولمسة وفاء لفنان ميسان ونحّاتها الأمهر الخالد الذكر الراحل أحمد فليح البياتي، والذي ترك فقدانه بالغ الأثر في نفسيَّة الفنان محمد الرسَّام، لذا فهو يستعيد وبطاقة أوسع وتجدد أكبر تنفيذ العديد من الأعمال النحتيَّة وبسماتها الأكاديميَّة وتجسدها الجمالي، وحين تنفيذ العمل ترافق محمد الرسام الموسيقى التي تأخذه الى "فأنا في حالة إبحار دائم وصولاً لتخوم نهاية العمل".

جملة اشتغالاتٍ يسعى الرسام لإكمالها في مجاله النحتي، وهو يعد العدة لإقامة معرضه الشخصي، وأبرز هذه الاشتغالات هي أعمال بارزة  "ريليف" ومجسمات، ضمت مجموعة من الرموز الميسانيَّة وأعمال منفذة لعدد من المبدعين الفاعلين في الوسط الأدبي والثقافي والفني في ميسان، وهو بحسب تعليق الفنان يشكل "الحلقة المفقودة" في مسيرة الفن، أي هو عامل هنا على توثيق تجارب هؤلاء المبدعين في إشارة لاستمرار تواصل هذه الكوكبة مع صناع الفن والتاريخ عبر العصور. وأبرز هؤلاء الشخصيات "العالم عبد الجبار عبد الله والباحث جبار الجويبراوي والملحن كاظم فندي والنحّات الراحل احمد البياتي والشاعر الغنائي نعمة مطر العلّاف".