ما الاصلاحات الثقافيَّة التي على الدولة أن تحققها؟

ثقافة 2023/05/29
...

  استطلاع: صلاح حسن السيلاوي

ظلمات ثقافية كثيرة، تعصف بحياة المجتمع مثل التطرف، والجهل الناشئ عن تراجع منظومات التربية والتعليم، وانخفاض مستويات الجامعات العراقية عن مثيلاتها في العالم، والعشوائيات في نظم الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والعمرانية.ما الإصلاحات الثقافية التي يمكن للدولة أن  تحققها؟ هل ستنتبه إلى تلك الترديات التي وقفت وراء كل ذلك النكوص، هل ستسعى لإعادة حياة المسرح والسينما والدراما في البلاد، هذه الفنون التي تبث ثقافات متعددة، وتعمل على تنقية الذائقة من شوائب الحروب والتردي والسوداوية، التي تغلغلت في قاع حياة المجتمع العراقي؟ هل ستعمل على أهمية الكتاب، أهمية أن نمتلك دور نشر كثيرة ومهمة على مستوى النوع والكم؟

 فضلا عن دار توزيع تعمل على إيصال ذلك الكتاب لكل بقاع العراق والعالم؟ أيمكن أن تعمل دولتنا على طباعة ما تصدره الجامعات العراقية، من مئات الأطاريح السنوية التي يمكن أن تؤسس لها دار نشر في كل جامعة؟ متى يتم تأسيس مجلس أعلى للثقافة العراقية؟ ماذا عن أهمية نشر الثقافة الوطنية، ثقافة الوطن والمواطنة،؟ ماذا عن دعم وحماية اللغة العربية وضرورة تدريسها في كل شبر من البلاد، بوصفها ذاكرة وحصنا لثقافات المجتمع،؟ ماذا عن دعم المؤسسات الثقافية التي تعمل بشكل تطوعي منذ سنوات طويلة،؟ مثل اتحاد أدباء العراق وفروعه في المحافظات التي لا يملك أغلبها مقرات فيها؟. 

عن الإصلاحات الثقافية التي يمكن للدولة تطبيقها تساءلنا في حضرة نخبة متميزة من مثقفينا عبر هذا الاستطلاع. 


صناعة مجتمع مثقف 

الشاعر حاتم عباس بصيلة، يجد أن على الدولة أن تكون بعيدة عن الانحياز الأيديولوجي، وأن تعيد هيبة المعلم وتزيد فعالية مجانية التعليم، وهذا يتطلب إنهاء التعليم الأهلي لأنه يهدف إلى الربح المادي بالدرجة الاولى، وأوضح قائلا: لابد للعلم أن يكون كما قال طه حسين ذات يوم، كالماء والهواء.

الثقافة لا تكون مؤثرة الا من خلال التعليم، فهو الأصل، وبه تُحترم الثقافة عبر كل مسمياتها الأدبية والفنية والمسرحية، ولا يكون للثقافة دور مهم في الحياة من دون أسس اقتصادية جيدة كذلك، ولا يكون الشعب قويا ومتزنا إلا بإصلاح جميع نظم الحياة كالصحة والأمن الذي يحتاج إلى بث الروح الوطنية والترجمة الحقيقية لثقافة الوطن الواحد، وهذا عمل ثقافي بامتياز.

ولا بد للدولة أن تؤسس إلى عمل ثقافي مشترك مع الجيران عربا واجانب، لأن الثقافة تسهم بجلب وتأسيس السلام والطمأنينة الشعبية من خلال فهم ثقافي مشترك، وتجسير معرفي، يؤدي بالنهاية إلى تقارب  شعبي ومؤسساتي، يلغي كثيراً من المشكلات التي طالما زرعها سوء الفهم والانقطاع المعرفي بين

 الشعوب.

كما أرى أن على الدولة بث البرامج والاشكال المعرفية المختلفة، ليكون رصيدا لبناء انسان متزن من دون المبالغة في تقييد الحريات، فالصحيح هو إيجاد نموذج اخلاقي ثقافي جمالي مؤثر في المجتمع.


 تحقيق السلام ثقافيا 

الفنان التشكيلي الدكتور شوقي الموسوي، يرى أن  تزاحم ويلات الحروب على العراق، والتدخلات في شأنه الداخلي، أسهمت في صناعة الموت وترسيخ فلسفة الفوضى من خلال حرق مراكز المخطوطات ونهب متاحف الاثار والفنون وتشويه التراث وتفجيره واستبداله بآخر هجين ومزيف مع فتح الحدود والعبث بالبلاد. 

لهذا يجد الموسوي أن مهمة الدولة ليست بالمستحيلة، إذ إن ترميم الحياة الثقافية في البلاد، من خلال الاهتمام بالمؤسسات المعنية والانتباه إلى الجانب الثقافي في وزارات التربية والتعليم العالي والثقافة والسياحة والاثار، أمر مهم جدا، وهو عمل يدر على البلاد سمعة طيبة ويسهم بتذويب تلك الانكسارات النفسية الاجتماعية من خلال تطوير الجوانب العلمية وتقديم اعمال فنية وأدبية ومسرحية والعمل على تطوير الجوانب السياحية لآثار بلاد الرافدين، التي يمكنها أن تدر واردات مهمة عبر استثمارات سياحية كبيرة. 

على حد وصفه.

وأضاف قائلا: إن مشكلات ( مابعد 2003م) التي عصفت بمجتمعنا لا تقل شراسة وفتكاً عن ويلات النظام المقبور.

فقد أسست مرحلة ما بعد 2003 مصانع للتجهيل والتكفير والتهجير، التي أسهمت في صناعة فلول داعش الاجرامية، فأنتجت ثقافة الظلام على حساب التراث العربي والاسلامي الرافديني العريق، فتراجعت المنظومات الاخلاقية والقيمية والمؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية، بسبب إهمال بعض القيادات الحاكمة للثقافة وعلومها وآدابها وفنونها والانشغال عنها والاهتمام بتكريس الكم على حساب النوع. 

ولهذا فإن أثر داعش وثقافتها الظلامية يجب أن يواجه بعمل ثقافي منظم يعمل على رفع شوائب تلك الاثار في المناطق، التي سيطرت عليها داعش عبر استشارة معنيين في هذا الجانب لتوفير مناخ ثقافي، يسهم بعدم تكرار مثل هذا الواقع المرير.

نحتاج إلى الحفاظ على ما تبقى من العراق والنهوض بمجالاته ومعالمه شيئاً فشيئاً، من خلال إسناد الدعم الكامل للمؤسسات الثقافية التي تصنع صفحات مشرقة للعراق، على سبيل المثال، المؤسسات الأكاديمية (الجامعات) والثقافية (اتحاد الأدباء والكتاب ) والنقابات (الفنانين)، والجمعيات الفنية التشكيلية، بوصفها صانعة للقيم الجمالية والتربوية والتراثية، على الدولة أن تحتضن مشاريع هذه الشريحة القيادية المثقفة، التي ما زالت تنتج بأقلام مبدعيها أروع الاعمال الفنية، سواء في الادب أو المسرح أو في السينما أو في القصة والشعر أو في التشكيل والنقد والفلسفة.

اقترح على الحكومة إنشاء دار نشر وطنية عالمية بواقع دار نشر في كل مؤسسة (الجامعة، الجمعيات، الاتحادات، المسارح، النقابات، النقد، الادب...) تتبنى طباعة الكتاب العراقي، فهنالك ملايين المشاريع العلمية والادبية والفنية والنقدية موجودة معششة على الرفوف، تنتظر التوثيق سواء كانت اطاريح الدكتوراه أو الماجستير أو دراسات نقدية بأقلام المبدعين في اتحاد الادباء والكتاب والجمعيات الفنية بوصفها جميعا ذاكرة تراث وحياة.. علينا جميعاً أن نتعظ من الدروس التي أعطيت للعراق عبر الزمان ونعمل على الحفاظ على ما تبقى لأجل صناعة السلام.


دور المبدع الإيجابي

الناقد صباح محسن كاظم، يرى أن  المثقف الإيجابيّ  بعينه الباصرة وعقله النافذ ووعيه الراكز، وتحليله البنّاء يطوق المعوقات ويُساند الدولة لتحقيق كرامة كل الشرائح الاجتماعية.

كما يشير كاظم إلى ضرورة أن تعمل الدولة على إحالة خراب السكن في العشوائيات إلى ثقافة عمرانية جديدة، من خلال الشركات  التي نجحت بمدننا المختلفة لتشجيعها على المضي بالعمل المخلص النزيه وتوفير دور سكنية واطئة الكلفة، ليتمكن أي مواطن من الحصول على حقه بالسكن وجميع أبنائه بالتعليم والضمان الصحي. 

وأضاف قائلا: تستطيع الجهات المعنية باتخاذ القرار أن تسهم بارتقاء الإنسان عبر الاهتمام بكل جوانب الثقافة، من طباعة المؤلفات والرسائل الجامعية والدراسات البحثية بجميع تنوعاتها العلمية والتاريخية والأدبية والفنية، عبر توسيع عمل دار الشؤون الثقافية وتأسيس فرع لها في كل مدينة.. مع بناء قصور ثقافية تحتوي قاعات سينمائية ومسارح حديثة.. والقضية الأخرى المهمة جدا هي الاهتمام بالآثار العراقية والمتاحف، فالعراق خزان التراث العالمي، فلا بد من تأهيل كل المواقع سياحياً لجلب السياح، فالسياحة نفط دائم وبمردوداتها المالية يمكن دعم الميزانية والناتج القومي.

مسؤولية النخب الثقافية جوهريّة بتشخيص علل الواقع وطرح المعالجات، بالمقابل على السياسي والحكومة سماع صوت المثقف وقراءة مناشداته، التي تمثل الهم العام وليس الذاتي.. دورالمثقف الإيجابي لا يقل أهمية عن دور السياسي بل يوازيه ويسانده بالطموحات  للنهوض بواقع التعليم المقدس، والواقع الصحي المتهرئ، والجانب العمراني، الذي يجب أن يكون مستوحى من حضارة بلاد ما بين النهرين.

وقال كاظم ايضا: يسهم المثقف في تقديم كثير من الفعاليات، التي تقع ضمن فكرة تحصين المجتمع تعزز ما يلي: 

1 - لا يُجمل القبح كما فعل مثقف السلطة والآيديولوجيا السابقة.

2 - يحفز العقول بالأخص الشباب عبر حثهم للنهوض من الكبوة الحضارية والإسفاف والإبتذال والسطحية.. 

3 - التماهي مع هموم المواطنين بتفكيك الأزمات وإيجاد الحلول لكل المعضلات بالتآزر، وتشجيع استثمار القدرات بالاستفادة من الثروات حتى لا تذهب لجيوب الفاسدين.. ومطاردة كل ثغرات البناء الاقتصادي والإستثمار عبر الكتابة، بل وحتى بالنداءات الفيديوية التي تصل للمجتمع من خلال وسائل الاتصال.

4 -التصدي لتقويض أي أفكار دينية منحرفة، أو دعوات لا أخلاقية تحاول المثلية إشاعتها بالمجتمع، مع  ردم كل الأصوات النشاز والمحتوى الرديء الهابط الذي لايعكس ثقافة الشعب الأصيل.

5 - المناشدة بمنح حصة العراق المائية من تركيا، وألا يقف المثقف صامتاً أزاء تصحر البلاد وانهيار الزراعة وهلاك الثروة الحيوانية والسمكية. 


تهدئة الانقسام الاجتماعي  

الشاعر عادل الصويري قال: كل ما تفضلت به من آليات إصلاح ثقافي؛ يمكن أن تتم بسهولة في بلد كالعراق، له إمكانات اقتصادية وبشرية هائلة. 

لكن الأهم برأيي قبل مطالبة الدولة  بالإصلاحات الثقافية، أن نتوجه لتهدئة الانقسام الاجتماعي حول الخطوات الحكومية.

كلنا شاهدنا كيف احتفل الجمهور المؤيد للجهة السياسية، التي جاءت برئيس الوزراء بخطوة مكافحة المحتوى الهابط، قابله تذمر من جمهور منافس، وصل إلى حد التنظير الثقافي والاعلامي للهبوط، مصحوباً بهبّة الكترونية متنمّرة على هذا القرار. 

ما لم نواجه هذا الانقسام، ونضعه على طاولة نقدية فاحصة، فلن تنفع كل جهود الاصلاح؛ لأن المؤيّد سيعتبر أي خطوة صغيرة فتحاً من فتوحات الحياة العصرية، أما المعارض الأيديولوجي المتحزب، فلن يقتنع وسيبقى يتنمر وينظّر ويشكك حتى لو صارت بغداد مقرا

 لهوليود!

ومخطئٌ من يعتقد أن الانقسام الاجتماعي هو انقسام الطبقات البسيطة أو متوسطة التعليم، فالواقع يقول إن أساتذة الجامعات منقسمون بين مؤيد ومعارض، وكذلك الأدباء والاعلاميون والأطباء والمحامون. 

ولابأس إن حدث الانقسام في سياق الاختلاف الطبيعي المقبول، لكن الواقع يقول غير ذلك مهما بالغنا في التفاؤل.

وأجدني متفقاً معك بشكل كبير في جزئية الاهتمام بالسينما على مستوى دعم الدولة؛ فنحن فعلياً لدينا في العراق دور نشر كثيرة، لكنها غير فاعلة بكل صراحة بعد أن استهلكتها عقلية الربح والخسارة التجاريتين على حساب الابداع الفكري وسوء التوزيع، وعدم وجود خطة مدروسة للاشتراك في المعارض الخارجية. 

وتقام عندنا معارض كتاب دولية في بغداد وأربيل وكربلاء والسليمانية.

أما الدراما فأتمنى ألا تركز جهودها على موسم محدد، وكأن وظيفتها مختصرة على ترفيه إنسان صائم.

المسؤولية الأكبر تقع على عاتقنا نحن في تهدئة أنفسنا أولاً، ثم تهدئة المجتمع، وتقليص أسباب انقسامه على الرغم من صعوبة المهمة؛ لأن الانقسام مشروع كبير لا أبالغ إن قلت إنَّ دولا تعمل عليه؛ لوأد أي لحظة وعي، وتصرف عليه مئات الملايين، عبر مسلسل تاريخي ليس له إلا أن يقدم الكذب بصورة يظنها مقنعة. 


ثقافة محمد سعيد باشا 

الشاعر الدكتور وسام حسين العبيدي قال: عندما نتحدّث عماهية الحلول التي تنهض بواقع الثقافة والتعليم في العراق، تحضر أمامنا مقولةٌ نقلها لنا المؤرِّخون عن محمد سعيد باشا الذي تولّى حكم مصر خلفًا لوالده محمد علي باشا، بعد أن أمر بإغلاق المدارس العليا “الكلّيات” التي أنشأها والده، وهي: “ أمةٌ جاهلةٌ أسلسُ قيادةً من أمةٍ متعلِّمة “ هذه المقولة على وجازتها، لكنها تنطوي على خطرٍ تترقّبه كلُّ سلطةٍ مُفسدة، تعمل على وفق منطق الغنيمة والاستئثار بالمنصب للمصلحة الشخصية/ الحزبية، وإذا كانت هذه المقولة تكشف عقدة السلطة من العلماء والتعليم ومراكز التعليم؛ فلأنها تُدرك تمامًا أنَّ الجهل لا يُشكِّل خطرًا عليها؛ لأنه سيمنح لها فرصةً أطول للاستمرار على ما هي عليه من فساد وإفساد وظلمٍ واستئثار بثروات

الدولة. 

ولأن العلم والعلماء ومراكز التعليم “الحقيقية” تعمل على إنتاج طاقات علمية خلّاقة في مختلف المجالات، تأخذ في ما بعد وظيفتها في المجتمع، فتُصلح بما لديها من كفاءة كل ما هو فاسد، وتُحارب من موقعها كل من يشكِّل ظاهرةً من ظواهر الفساد في المجتمع، بما يقطع على الفاسدين “الكِبار” الطريق للتمادي في فسادهم، وبما يُضيِّق عليهم مساحة النفوذ التي لم يتربّعوا عليها إلا من خلال جهل المجتمع بما يدور خلف كواليس السياسة، وتجهيله عبر مؤسّسات ظاهرها علمية، إلا أنّها لا تقدِّم أثرًا علميًّا ملموسًا يصبُّ في صالح الوطن أو المجتمع لا بصورة مباشرة ولا غير

مباشرة. 

وأضاف العبدي قائلا: وإذا كانت مقولة “محمد سعيد باشا “ آنفة الذكر تكشف الوجه القبيح للسلطة، بما لا يدع لها العذر في تمرير شعاراتها البرّاقة، التي تعمل على تخدير قطّاعات واسعة من المجتمع المُدجّن على  تصديقٍ ساذج بكل ما يصدر عن السُلطة ومُمثِّليها من خطابات، فإنّها تعمد على تجهيلٍ منظّمٍ يطول مراكز التعليم من مدارس ومعاهد وجامعات، عبر قراراتٍ مرتجلة وغير مدروسة لا توفِّر سوى المزيد من مظاهر الفساد، فالمناهج المعتمدة للتعليم غير مُحدّثة بما فيه الكفاية، والعالم يتطوّر بين سنةٍ وأخرى، وفي مثل هذه الحالة يكون الطالب – أيًّا كان اختصاصه- غير مؤهِّلٍ في ما بعد التخرّج، لأن يقدِّم إنجازًا يرتقي بوطنه لما هو أفضل، كذلك ما كان لأكثر الجامعات الأهلية – وقد زاد عددها وصارت توازي التعليم الحكومي- من مخرجات كمّية لا نوعية، من أثرٍ في ازدياد أعداد الخرِّيجين، التي تبحث عن فرص التعيين بغضِّ النظر عن المؤهِّلات العلمية الكافية، وغيرها من سياسات التعليم غير الناجعة في إخراج أجيال ناهضة تؤدي ما عليها من رسالة تنفع بها المجتمع؛ لقصور في مؤهلاتها، وتقصير في الجهات الحكومية الراعية للمؤسسات التعليمية التي تخرّجت منها تلك الأجيال، وكذا الحال بالنسبة للطواقم المسؤولة عن التعليم، فهي الأخرى بحاجة إلى إعادة نظر في مؤهلاتها العلمية، لا سيما مع الانفتاح غير المسؤول للشهادات العليا القادمة من خارج

العراق..!