العِلْم والكتمان

ثقافة 2023/05/29
...

 ياسين طه حافظ

نحن في أوساطنا الأدبية، لا يبدو الكتمان أمراً يبعث على الرضا أو على ما هو مألوف معروف. ثمة من يخشى على «فكرته» او موضوع كتابته من أن يلتقفها أحد ويكتبها أو يتبناها كواحدة من «بنات» أفكاره. لكن عموم ما ألفناه أن الكاتب يكتب ليقرَأ والشاعر ليُقرأ أو ليُسمع، فيُعرَف وكلما انتشرت كتابتهما كلما ازداد رضاً وكأن ذلك هو المبتغى وكأن ذلك هو ما يتمناه أي كاتب او شاعر. بعض الكتاب ممن صار مبيعهم يتخذ وجهاً تجارياً يحرصون على ستر يخفى عملهم حتى إنجازه كاملا ونشره.

يمكن القول هذا وجه تجاري من وجوه العمل. وبعض، مُحِقّاً، يخاف على فكرة جديدة او طريقة او تقنية أن يطّلع عليها أحد ويوظفها وهو بعد لم يفد منها ولم يؤكد ملكيتها. عموماً هذا قليل صار مع الأيام، مع الطباعة والتجارة طبعاً أو ضرورة ولسنا في موضع لوم ولا موضع إدانة، ولكنها إشارة الى ما صرنا نعرفه أو نمارسه. لا نستطيع بعد فصل العمل الأدبي المقروء واسعاً عن التجارة. فهو مثل أي نتاج صناعي او زراعي يباع وله مالك يحسب حساباً للربح.

في العلوم يختلف الأمر، حتى ليصبح حدثاً أن يكشف علمي سر او طبيعة بحث او وصول الى تطبيق. هنا التجارة تريده لها والصناعة تريده لها والسياسة العسكرية والدولة تريدانه لها وكل هذه الجهات توصي بالكتمان. السرّية صارت شرط عمل في البحوث الخاصة والمختبرات، لا سيما الموضوعات التي تخص الشؤون الحربيّة او التجاريّة، الأغذية او الأدوية والأدوات او الأجهزة. هذه السرية وهذا الحرص أضرّا بمدى الحرية التي كان الباحث العلمي يتمتع بها. صار بسببها شغيلاً علمياً في مؤسسة بحوث لها سرّيتها. 

وهذه السرّية واحدة من أهم عوامل إضعاف التقدم في البحوث العلمية. فالسريّة وافتقاد الحرية، جاءا من بعد بالخوف على النفس اذ اصبح الباحث العلمي الجريء هدفاً لاعداء الدولة وصار التشاور وتبادل الافكار والمناقشة على حذر او معدوماً، حسب درجة سريّة الموضوع. صحيح أن البحوث ذوات الصيغة العامة من صالحها وصالح الشركة او المؤسسة وراءها ألّا تُجريها سراً. لكن بعض الشركات توجب اخفاء البحوث ذاتها قبل اكتمال نتائجها. وطبعاً المسوّغ الأهم لإخفائها هو الفائدة المرجوة من بعد منها.

اذاً ابتعدنا عن المثالية، ابتعدنا عن فرح الرومانس، ابتعدنا عن متعة الشهرة والزهو لتكون عناصر تجارية او منجزي خدمات عسكرية. 

واحياناً كتّاب ادبٍ دعائي يقع ضمن التوجيه العسكري او العنصري او المؤسساتي. الأدب عمل بأجر! بعض الأسرار العلمية غيّرت موازين العالم والا فلو بقيت أسرار انفلاق الذرة لدى دولة واحدة، وكما في البدء، لحكمت العالم وتصرفت به كما يحلو لها. تُخضع او تمحق، هي تملك قوة مدمرة تُخضع كلَّ قوةٍ لا تذلّ ولا تطيع. إدخال العلم في الصناعة أدى الى هيمنة التسلط على العالِم ومصادرة حريته واختياره وليعمل ضمن مشروع تجاري في النهاية ولهكذا مشروع يجب توفير ضمانات لمواصفاته ولاحتكاره من بعد. قد تنجح طرق التعاون غير الرسميّة، الشخصية على التعيين، بين العلماء المشتغلين في فرع من فروع العلم. ولكنها تفشل في ايجاد صلة او تنسيق عدا الاستعانة وعدا الاجتماعات المشتركة. المشاريع التي يعملون عليها لخدمة شركة او مؤسسة مُحاطة عادة بخصوصية وكتمان.

فهل لامست العدوى النتاج الأدبي بعد اتساع مديات نشره؟

بدءاً يبدو الجواب نفياً. لكن هذا على العموم. أما مشاريع النشر الواسعة، ففيها جانب تجاري فاعل ايضاً. وثمة تبنٍّ للكتّاب ولمعقبين او صحفيي ادب وصحفيي ثقافة وكذا نقاد وكتاب يخدمون المطبوع بأجر. دور النشر تدفع لكي تربح أكثر من بعد. 

والتوصل للمشروع الأدبي او التسلل له، لكتابة مشابهة او مماثلة، هو جانب من السطو التجاري وذلك واضح في صناعة الافلام والمسلسلات. كما ان جانب التقليد والمحاكاة واضح في الصناعة الادبية نفسها وغالباً ما يتكلم بعض الكتاب المشهورين عن بعض اعمالهم القادمة او عما يفكرون به ويحجبون عن غيرهم المشاريع الاخرى الكبيرة المكلفين بها. قد تبدو الظاهرة محدودة لكنها حاضرة وموضع التطبيق العملي ويمارسها ويعمل بها منتجو الادب الفرديون والعاملون في المشاريع الادبيّة. السريّة هنا ضرورية لحماية المشروع من التقاف الفكرة وانتاج عمل مماثل او مشابه. وهذا بالنسبة لجهة الاصدار، مصادرة ربح، أو مصادرة بضاعة في الطريق.

لا توجد حدود او رُخَص لمدى التجاوز. الأدب مرن وله اوجه مختلفة للحال نفسها. ولذلك كمٌ لا حدود له من النتاج الادبي والفني مُعَرَّض للابتزاز او في الاقل للاستفادة من «مواده» في البناء الجديد او الابنية الجديدة على ايدي المطلعين عليه. استطيع القول ان نسبة كبيرة و»متقدمة» من كتّاب آسيا وافريقيا، يتغذون بما يقرؤونه من الادب الانجليزي، الالماني، الفرنسي واللاتيني اليوم وفي السنوات الأخيرة صار يتضح اثر الادب الايطالي الحديث في الكتابات. لكنها «فائدة» لا ترقى لأن تتخذ مدى تجارياً واسعاً كما الحال في العلوم، العلوم الصناعية والحربية مثلاً.

في الادب لا تستطيع أن تمارس الكتمان مدة طويلة، لأنّك لا بدَّ أن «يطلعوا» عليك لتكون اسماً بارزاً وصاحب مكانة. الادب مكتوب ليُقرأ. 

ما تبقّى هو المشاريع الادبية التجارية تلك التي لا يريحها التشابه بينما العمل في ورشاتها بعدُ لم يكتمل. ولو كان للادب، كالعلم، دور في الصناعات التجارية أو العسكرية، لاكتملت سريته ولرأيت الكاتب الاديب لا يتنزه خالي الوفاض مثل صعلوك يشغله الغروب على سعفات النخيل.. ولكنه سيخرج من مختبره السري متوجهاً الى بيته ومسجلون سريون يؤمّنون له الوصول.