تمسْرحُ الشّعر: حفل توقيع كتابٍ عربي مترجَم إلى الفارسيَّة

ثقافة 2023/05/29
...

 علي عباسي

تمسرحُ الشعر: هو عنوان أطلقه الدكتور حسین عبّاسي كاتب هذه المسرحية الصامتة، علی نوعية خاصة من المسرحیّات التي تتحدث في طیّاتها عن الشعر بشكل أو بآخر. ولا شك أن هذه المسرحية التي نتحدث عنها تعد من ضمن قائمة (تمسرحیّات الشعر)؛ إذ تحتوي علی مضامین كثیرة من كتاب؛ (حروف لم تصل لأبي؛ حروف أضافها إلی الأبجدية قاسم الشمري) وكذلك تتضمن جزءًا من حیاة الشاعر العراقي قاسم الشمري؛ صاحب هذه المجموعة الشعرية.

كانت فرقة (إشراق) المسرحية بإخراج من السید كاظم القریشي؛ هي القائمة بجُلّ أمر التمثیل، وكان ذلك في قاعة (مهدية) الثقافية، الكائنة بمدینة (كوت عبد الله) في یوم 31 مارس 2023.

وقد قام أكثر الممثّلین ومثلهم الممثلات بعملٍ جیّد في التمثیل رغم أنّهم لم یتمرّنوا علی أدوارهم إلا في جلستین تحضیریتین فحسب.

تمّت كتابة هذه المسرحية بقلم الدكتور حسین عبّاسي، اقتبسها من حدث مؤلم حصل لقاسم الشمّري ـ صاحب كتاب (حروف لم تصل لأبي؛ حروف أضافها إلی الأبجدية قاسم الشمّري) ـ وأسرته حیث تم اختطاف وقتل والده في عام 2008 من قِبل شخص/ أشخاص/ جهة مجهولة، لأسباب مجهولة ـ عندي ـ حتّی هذا الیوم. 

وإلیك تعبیر قاسم الشّمّري عن ذلك الحدث في مقدّمة الحرف الثامن من كتابه، حیث یقول/ یُنشد: “وكاصفرارٍ یتربّع في ذاكرة القمح. اقتحمتْ ذاكرتي المثقوبة لیلة ذات وجه شاحب، كما اقتحم رجال العفَن بیتنا واقتادوه علی إیقاع صرخاتنا بحجّة اختراقه للأمن.. فیا لله والأمن”. 

لا یخفی أنّ المسرحیة بذاتها كانت عبارة عن حفل تدشین لترجمة المجموعة الشعرية المذكورة أعلاه إلی اللغة الفارسية تحت عنوان؛ (حرف-هایی كه به گوش پدر نرسید)، قام بترجمتها الشاعر الأدیب حسین طه حسین المعروف عند شعراء البلدان العربیة بـ (حسین طه الطُّرفي)، وقد قام الدكتور حسین عبّاسي بتنقیح هذه المجموعة الشعرية المترجَمة. وكان كلّ ذلك بناء علی رأي هذا الأخیر لیصبح بالنهاية حفل تدشین مختلف جدّاً ینال إعجاب أكثر الحاضرین والحاضرات.

أیضاً فإنّ الحفل كان یحمل معه مفاجأة كبیرة للجمهور المتواجد في القاعة، بل وكانت المفاجأة قد عمّت بعض الممثّلین والممثّلات إذ علموا ـ بعد إتمام التمثیل ـ أن قاسم الشّمري كان یجلس متنكراً ـ بطلب من کاتب المسرحیة ـ ضمن المتفرّجین، مما أدّی ذلك إلی إعجاب وترحیب كبیرین تجاه الشّاعر من قِبَل الجمهور. فما كان له إلا أن یصعد بعد ذلك خشبة القاعة ویقوم ـ إلی جانب المترجم ـ بتوقیع النسَخ التي تمّ بیعها من المجموعة الشعرية. وكان عدد المبیعات في تلك اللیلة غیر قلیل ـ حسب مشاهدتي.

قائمة الممثّلیین كانت تحمل معها ثمانية عشر اسماً أكثرهم من فرقة إشراق المسرحية منهم أربع نساء والآخرون رجال. 

وكانت أسماء كلّ من كاتب المسرحية ومنقّح المجموعة الشعرية المترجَمة؛ د. حسین عباسي، والمترجِم؛ حسین طه حسین، وكذلك الناقد الأدیب؛ د. محمود الباوي تتواجد ضمن هذه القائمة.

کما من اختار الموسيقى؛ المهندس حسين شموسي، ومَن أعدها للبثّ؛ المهندس أحمد شموسي كانا أيضا يحملان المصابيح اليدوية/ ويمثلان في الحین نفسه.

مشاهدات من جنب الكوالیس:

(قاسم)؛ الاسم الذي اعتدت الشعور معه بالحزن. لم أتعرّف علی الشاعر من قبل إلا أنّ هذا الاسم یذكرني بشهید معركة شهیرة قُتلَ قُبَیلَ عمَّه قبل ألف وأربعمائة ونیف من السنین.. ویذكرني بحفل زواجه وإن لم یتحقق!

ننظر من بعید، فنحن خفيّان عن الأنظار؛ أنا والمصباح في یدي واقفان بمصمود في زاوية ما! نرمق كلّ ما في الصالة من جمهور وممثلین وممثلات بعنف حیث نرید. فأنا أقوم بدور مصمم أضواء في تلك القاعة المظلمة تارة، وأخری أقوم بدَور الباحث عن قاتلٍ ما بین الجمهور الحاضر.

أخال بأنّي سأتعرّف قریباً علی الوالد، فلا بدّ أن یكون الولد الشاعر یرید أن یعرّفنا علی والده المقتول ظلماً.

غیر أنّ الوالد ـ والذي لا أزال لم أتعرّف حتّی علی اسمه ـ لا یكترث بأن یُعرف.. كلّ ما یریده الآن هو أن یعرّفني هو بولده أولاً قبل أن یواجه قدره الذي یبدو أنّه الآن أصبح محتوماً علیه.

أسمع صرخته التي وجدت طریقها إلی قلبي رغم ذلك الظلام السائد في القاعة.. الصّرخة التي أثارت الضجیج في ذلك الصّمت المرعب.. تلك الصرخة الواثقة رغم ارتعاشها.. الصّرخة التي أری في الظلام أنّها خلّدت (الوالد وما ولد) في خَلَدي حین همست إليّ برمزية تقول: (قاسم.. قاسم.. قاسم).

المشاعر السائدة في الصالة في تلك اللحظات كانت عبارة عن والد ینادي ابنه بحرقة قبل أن یُرغَم بالذهاب بعیداً عنه.. ولكن ألم تكن له أمّ وزوجة وطفلتان؟ ﴿فالأم والجدة موجودتان في النص العربي، ولکن الطفلتین فهل کانتا من إضافات کاتب المسرحیة؟﴾ وعلی أي حال، أما رقّ قلب الأب علیهنّ لینادیهنّ لآخر مرّة كما فعل مع قاسم؟

لم نقتنع أنا وصدیقي المصباح بهذا المعنی إن كان یقصده كاتب المسرحیة بالفعل! لا بدّ أن یكون هناك شيء ما خفي عن الأنظار في ذلك الظلام. بدأ صدیقي بالسطوة علی ذلك الظلام بكلِّ ما یملك من بطّارية وضوء لیجد الحقیقة. نحن واثقان بأنّها كامنة في مكانٍ بالقرب منّا.. الحقیقة لا تزال في الصالة، إذ الوالد لم یخرج بعدُ!

أری الآن بأنَّ الوالد لم یكن یخاطب ولده.. وإلّا لكان أخبره بما یطلب منه في تلك الثواني المعدودة ـ وهو یُرغَم بالخروج من القاعة علی ید القَتَلة ـ بدل أن یقوم بتكرار اسمه لثلاث أو أربع مرّات. لا.. بل كان الوالد یخاطبني أنا.. كان یخاطب الجمهور الحاضر، بل وكلَّ من یمكن أن یسمع صوتَه. في الواقع إنّه كان یقول: “تذكروا هذا الاسم جيّداً فأنا أتنبّأ فیه شاعراً ممیّزاً یخرج من أقصی حدود ذاته”.

ولا استنكر هذا التنبؤ علی الوالد.. فإنَّ كاتب المسرحیّة یؤمن بأن تنبّؤ الوالدین في أولادهما مصیبٌ؛ إذ یبدو أن لا یخطئ أيّ منهما عنده. لذلك نری في المشاهد الأولی من المسرحية أنّ والدة الذي سیُقتل، تزهق حزناً متنبّئةً خطفَه. وبالسبب نفسه یقوم الوالد بتنبّأ الشاعريَّة في ولده لیخبرنا بها بكامل الثقة. 

وهنا یمكننا ـ أنا والوالد المقتول ـ أن نخالفَ الشّاعر في عنوان مجموعته، إذ إنّ الـ (حروف) بلغت الوالد قبل أن تبلغَ الولد لیصبح بها شاعراً. كما أنّ الوالد قام بنشر اسم ولده في العالم الإسلامي قبل أن یبوح الولد باسم والده في القاعة.