الحديقة السريّة... تقنية مراوغة وغزو نباتيّ يُرمّم ما أفسدته الحرب

ثقافة 2023/05/29
...

  عدنان حسين أحمد

 لا تستجيب بعض الأفلام الوثائقية إلى التصنيف، وهناك مخرجون يخطئون حينما يضعونها في خانة محددة بينما تتطاول أذرع الفيلم إلى أجناس ومصنفات سينمائية أخرى. وفيلم "الحديقة السرية" للمخرجة اللبنانية نور عويضة هو من هذا النمط المراوغ الذي لا يقول كل شيء بصراحة ووضوح وعلى المتلقي أن يبحث عن المعاني الخفيّة الماكرة التي تتوارى خلف الخدع البصرية التي تطمس الحدود الفاصلة بين الحقيقة والخيال.

لا تكتفي المخرجة بتصنيف فيلمها بالوثائقي القصير، وإنما تضعه في خانة "التجريب" تارة، وموضع الفيلم الذي يفحص "الطبيعة" تارة أخرى، ولا تجد ضيرًا في أن تحشره في قصص "الخيال العلمي" حينًا أو المذكرات السرية لمخلوق سحري غامض حينًا آخر. ولعل جمالية الفيلم تكمن في هذا النفس الهلامي الرجراج الذي لا يستقر على شيء محدد بذاته.

لا بد من الإشارة إلى أن القصة السينمائية قد اشتركت في كتابتها كارين ضومط إلى جانب المخرجة نور عويضة، الأمر الذي أخرج الفيلم من خانق الرؤية الواحدة وأبعدهُ عن "سينما المؤلف" وفتح له أفقًا آخر يحتشد بالمفاجآت الصادمة. وفي السياق ذاته لا بد من إحالة المتلقي إلى رواية "الحديقة السرية" للكاتبة البريطانية فرانسيس برنيت وإن اختلفت التفاصيل في هذا النص السردي لكن ثمّة "حديقة سرية" ومفتاحاً مفقوداً، ولُغزاً يُحلّ في خاتمة المطاف.

تتألف قصة هذا الفيلم من ثمانية فصول تستهلها الكاتبتان بهذه التوطئة التنبوئية الكاشفة: "يُقال إن على مشارف كل مدينة حديقة لا تظهر للعين المجردة أو في الخرائط، ولا تكشف عن نفسها أبدًا فلا يأتي ذكرها إلاّ في الأساطير". وإذا ظهرت هذه الحديقة السرية فلابد أن يكون ظهورها سُرياليًا في أقل تقدير.

تستعين المخرجة في الفصل الأول بالتلاقح الميتاسردي الذي يجسّده صوت المذيعة وهي تقرأ خبرًا عن ظهور أشجار وأزهار ونباتات غريبة في شوارع المدينة وساحاتها بشكل مفاجئ. وقد أدلى شهود عيان بأن تلك النباتات جديدة وأنها لم تكن موجودة البارحة فلا بد أنها قد ظهرت خلال الليلة الماضية. فهل يمكن أن تكون الحديقة السرية التي طالما سمعوا عنها في القصص والأساطير الخرافية قد أفصحت عن نفسها أخيرًا؟

يتعزز الميتاسرد حينما تعثر الشخصيتان الرئيستان، كاميليا ونهلة، على دفتر مدوّنات كان موضوعًا في علبة حديدية على شاطئ الرملة البيضاء يحمل عنوان "على مَشارف المدينة حديقة" ويحمل رسوم نباتات وخريطة تشبه النباتات التي ظهرت بالأمس في مختلف أرجاء المدينة. أمّا الخريطة فهي ترسم ملامح حديقة واسعة تقع على الحدود الشرقية للمدينة. تروي صاحبة المدوّنات عن الحديقة التي تمتلك تنوّعًا بيولوجيًا خاصًا إضافة إلى رؤيتها لكائن سحري عجيب يجمع بين القط والطير وقد بدا لها غريبًا ومألوفًا في الوقت ذاته وعندما نظرت إليه رأت المستقبل ناظرًا وساطعًا كالشمس. لم تكشف هذه المدونات إلاّ القليل عن هذه الحديقة السرية لكنها ولّدت عند كاميليا ونهلة شعورًا بالقلق الغامر. تُرى هل كل النباتات التي ظهرت في المدينة قد انبعثت من تلك الحديقة السرية؟ وهل يعني أن المدونات قد تنبأت بما حدث خلال الليلة الماضية؟ وما هو شكل المستقبل الذي رأته صاحبة المدونات في عينيّ هذا الحيوان الغريب؟ وأين هو الآن؟

وجدت كاميليا ونهلة، في الفصل الثالث، الحيوان السحري ورأتا مستقبل المدينة لكنه لم يكن ناضرًا وساطعًا كالشمس فأربكتهما هذه الرؤية وشوّشت حواسّهما فأدركتا عندها أن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه أبدًا.

يبدأ السُكّان بتدجين النباتات التي غزت المدينة وأخذوا ينقلونها من مكان إلى آخر ويزرعونها في منازلهم وشرفاتهم بهدف التحكّم بحركة نمّوها، فهل أصبح السُكّان متواطئين رغمًا عنهم مع هذا الغزو النباتي الجامح؟ لم تقتنع كاميليا ونهلة ببراءة هذه المخلوقات الجديدة فقررتا دراسة سلوكيتها بهدف فكّ اللغز وسوف يتوصل المَعشَب إلى اكتشافات غير متوقعة وخطيرة.

تدرس الباحثتان في مَعشبِهما أشكال الأشجار النباتات والأزهار ومواقعها والملحوظات التي تدونانها عن كل واحدة على انفراد. تتحوّل الشوارع شيئًا فشيئًا حتى أن الأشياء لم تعُد على ما كانت عليه. ولعل ذلك قد حدث إثر ظهور تلك النباتات؟ والأهم من ذلك أن نهلة قد شعرت وكأنّ شيئًا خفيًا قد استولى عليها ولم تعد هي نفسها تمامًا. ترى، هل يشعر سُكان المدينة بهذا الانشطار الغريب أيضًا؟

تحل الباحثتان اللغز وتُدركان بأنّ هذه البذور قد نبتت من شتلة وأن أي شخص يريد لهذا التناسخ، أن يحدث فلا بد لنا أن يتساءل: ماذا سيحدث لأجسادنا؟ وحينما تكتمل العملية فعلى الأرجح أن يدمّر الكائن الأصلي أو يتفتّت لكنها لن تظل واقفة تتفرج على نفسها وهي تختفي فليس هناك من خطر طالما أنها يقِظة فالكائن الجديد لا يتكون إلاّ عندما يغفو الإنسان. عندها فقط تعرف كاميليا ونهلة أن كل هذه النباتات الصامتة كانت تتآمر عليهما!

يتناول الفصل السابع موضوع "الغزو الذي لا يمكن مقاومته" حيث يُقال في زمن بعيد "نمت شتلة نادرة لديها قدرة خارقة تسبِّب انشطارًا خطيرًا في النفوس، فيصبح كل شيء غير مألوف تمامًا وغريبًا تمامًا"

قد تبدو القصة السينمائية متكاملة الآن من الناحية الأسطورية لكنها ليست كذلك من الناحية المجازية، فمن المؤكد بأن المخرجة لم تكتفِ بالجانبين الحقيقي والخرافي وربما يكون الجانب المجازي هو هدف الفيلم وغايته الأساسية. فمدينة بيروت قد دُمرت في أثناء الحرب الأهلية وأنّ هذه النباتات والأشجار الرمزية هي التي رمّمت خرائب الحرب وغطّت آثارها في أقل تقدير.  من الجدير بالذكر أن نور عويضة قد أنجزت عددًا من الأفلام من بينها "نحو الشمس" و "عشرة بحور وبحر واحد" و "الحديقة السريّة" الذي اشترك في مهرجان كوبنهاغن للأفلام الوثائقية في العام 2023 .