عبدالامير المجر
ينسب للشاعر العباسي البصري، صالح بن عبدالقدوس بيت الشعر الشهير، (متى يبلغُ البنيانُ يومـاً تمامَـهُ .. إذا كنتَ تبنيه وغيـرُكَ يَهـدم) .. والذي يسبقه البيت الممهد له (وإنَّ عنـاءً أنْ تُعلّـمَ جاهـــــلاً .. فيحسبُ جهلاً أنه منـكَ أعلُـمُ ) ..
وقد اشتهر ايضا في كونه حكيما واعظا، لذا قيل في شعره انه ينفّر الناس من الدنيا ومتاعها الزائل، ويذكر بالموت والفناء، ولعله اسقط هاجس الموت الذي يتملكه على اشعاره، فبدت بتلك النزعة التقشفية الخالية من التغزل بالحياة ومباهجها، خلافا لشعراء كثيرين عاصروه
وسبقوه.
لم تكن فكرة البيت الشعري الذي اشرنا اليه، بعيدة عن اذهان الناس، ولكن بصياغها شعرا، استقرت في الوجدان الشعبي والتصقت بالذاكرة، مثلما التصق الكثير من صور الافعال التهديمية، فرحلة المناضلين في العالم لاتختزل بمن حملوا السلاح او قارعوا الانظمة، وانما كان اقسى اشكال النضال هو ذلك الذي يخوض غماره انسان عاقل يجد نفسه محاطا بأناس جهلة، امتلكوا اسباب القوة المادية وباتت ايديهم اطول من يده، وبقدر ما يريد ان يرشدهم الى الطريق القويم، يرغمونه على السير في الطريق المعوجة، وهذا ما يجعل بعض العقلاء والمثقفين بشكل عام، يعيشون حالة اغتراب دائم وميل الى العزلة، والامثلة اكثر من ان يسعها هذا الحيز.. نحن في العراق عشنا فصولا من هذه المأساة، فكلما اعتقدنا اننا ضمدنا جراح الماضي وخطونا خطوة واحدة الى الامام، جاء من ينكأ الجرح من جديد ويعيدنا الى (المربع الاول)، وهذا المصطلح الاخير، من اختراعات جرحنا الاخير الذي نعيش في تفاصيله
باشكال مختلفة!
مأزقنا الكبير يتمثل بغياب ثقافة الدولة والمؤسسات، وهذا يفتح الابواب للفوضى، وهو ما نلمسه اليوم من ممارسات وتصريحات لاتمت للدولة ومفهومها باية صلة، والسبب ان البنيان المؤسسي للدولة العراقية لم يتحصل على فرصة زمنية كافية ليغدو قارا في حياة المجتمع. ودولة القانون لم تتحقق بالشكل المطلوب، ففي العهد الملكي، ترك اكثر من سبعين بالمئة من العراقيين في ذمة القوانين العشائرية وحلولها الخاصة للمشاكل، لاسيما في الريف، وكان الاقطاعي او شيخ العشيرة يختزل الدولة ويعبر عنها بطريقته الخاصة، في ظل غياب الدولة وجهل الناس بحقوقهم السياسية والمدنية،
واذا كان التعليم قد وسّع من مساحة احترام القوانين، بعد ان بلغ ذروته في سبعينيات القرن الماضي، فان هذا لم يستمر، بسبب الحروب والحصار الذي اتى لاحقا واعاد الثقافة الرجعية بصورها المختلفة الى المجتمع، وغيب الصورة المدنية للمدن نفسها، بعد ان زحف عليها الخراب القادم على اجنحة الجوع ووهن الدولة وتمدد العشائرية
في التسعينيات..
بعد الاحتلال، تجلى شكل جديد من الثقافة، امتزجت فيه المشاعر الدينية بالنزعة العشائرية، لكن الاخطر من هذا هو ان بعض المحملين بثقافة عشائرية، تبنوا الخطاب الديني من دون ان يتخلصوا من ثقافتهم القارة، فصاروا يتحدثون بلكنة دينية، لكن بحمولة عشائرية، اذ لم تستطع ان تلمس لياقة الدين المعروفة في كلامهم، بقدر ما تلمس النزعة العشائرية التي تطفح بطريقة فاضحة، فتبدو صورتهم مرتبكة امام الناس، ويصعب عليهم
تصنيفهم.
في عودة للبيت الشعري، نقول كيف يمكن للدولة ان تبنى من جديد، وهناك مسؤولون يتحدثون فيها بلغة بعيدة كل البعد عن لغة الدولة وثقافتها ورصانتها المطلوبة، أي انهم يستعيرون اللغة العشائرية ليعبروا فيها عن مواقف رسمية او يفترض ان تكون من اختصاص الرسميين؟
مأزقنا مركب حقا، والمهمة اصعب مما يتصور البعض، في حلها .. وفي فهمها، قبل
كل شيء!