العنصريَّة الثقافيَّة

آراء 2023/05/30
...

 ميادة سفر

تجاوزت العنصرية المفهوم المتعارف عليه والقائم على اللون والعرق، إلى مدارات ومجالات أخرى ارتبطت بشكل أو بآخر بالثقافة بمختلف أشكالها، والخلفية البيئية والمجتمعية للأفراد، وبتنا أمام مصطلح جديد أطلق عليه المفكرون العنصرية الثقافية، وهو مفهوم أطلق على التحيز والتمييز القائم على الاختلافات الثقافية بين الجماعات، ويشتمل ضمنياً على أنّ بعض الثقافات تتفوق على غيرها، وأنها غير متوافقة ويجب ألا تعيش في نفس المجتمع أو الدولة

تجاوزت العنصرية المفهوم المتعارف عليه والقائم على اللون والعرق، إلى مدارات ومجالات أخرى ارتبطت بشكل أو بآخر بالثقافة بمختلف أشكالها، والخلفية البيئية والمجتمعية للأفراد، وبتنا أمام مصطلح جديد أطلق عليه المفكرون العنصرية الثقافية، وهو مفهوم أطلق على التحيز والتمييز القائم على الاختلافات الثقافية بين الجماعات، ويشتمل ضمنياً على أنّ بعض الثقافات تتفوق على غيرها، وأنها غير متوافقة ويجب ألا تعيش في نفس المجتمع أو الدولة، انطلق منظرو العنصرية الثقافية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي في أوروبا من معاداة المهاجرين العرب والمسلمين، ومن التمييز الذي يتعرض له هؤلاء بسبب الاختلاف في الشكل والمظهر والسلوك واللغة والدين. 

 في الوقت الذي بدأت في الدول الغربية تتجاوز تلك العنصرية نوعاً ما، ونجحت كثير من محاولات تقبل الآخر ودمجه في المجتمعات الجديدة التي وفد إليها، واحترام عاداته وتقاليده وطقوسه الدينية والأثنية، استمرت كثير من المجتمعات العربية بممارسة عنصريتها الفجة تجاه بعضها البعض، فإن نحن تركتنا جانباً العنصرية المرتكزة على الجنس والجندر والتمييز، الذي ما زال يلاحق المرأة حتى اليوم، والنظرة الدونية التي تقابل بها على اعتبارها جنساً آخر وكائناً من مراتب متدنية، فإن أشكالاً كثيرة من العنصرية والتمييز تنتشر في مجتمعاتنا، بين أبناء الريف والمدينة، فما زال المدنيون «سكان المدن» ينظرون باستعلاء إلى أولئك القادمين من الأرياف لاسيما تلك البعيدة، فضلاً عن التنمر الذي يمارس على البعض بسبب اللغة واللهجة المحكية والزي الشعبي الذي يختلف من منطقة إلى أخرى، وحتى بين سكان المدن ثمة تمييز بين هذا الساكن في المناطق الراقية وذلك المقيم في العشوائيات المنتشرة على أطرافها، فلم نعد نعاني فقط من عنصرية الآخر فها نحن نخترع كل حين عنصرية تخصنا، ننتمي إليها ونمارسها بكل عقدنا الفوقية والمتخلفة.

في ضفة أخرى، تبرز العنصرية الثقافية والتعصب الفكري لدى المشتغلين في المجال الفكري والابداعي، ممن مارسوا القمع والإقصاء للآخر الذي لا يتواءم مع توجهاتهم وأفكارهم، ولا يسير ضمن النسق الذي يقفون فيه، وكثيراً ما يقترن التعصب الفكري في مجتمعاتنا بالانتماء الديني والعقائدي والحزبي، وهذا يعد واحداً من أفدح أخطاء الفكر العربي، الذي لا يميز بين المبنى الفكري، وبين الانتماء العقائدي أو الديني، وتنتشر في كل مكان حتى في أكثر الأماكن التي غايتها التعليم وتهيئة جيل المستقبل كالجامعات والمدراس، التي تحتشد بالعديد من المتزمتين المتعصبين لأفكارهم، الذين يعارضون الآخر ويقمعونه، لأنهم يرون فيه قلة نضج وخبرة، ولا يمت لمنهجهم القديم بصلة، رافضين أية أفكار جديدة قد يبديها جيل الشباب، الأمر الذي يؤدي إلى التأخر في مجال التطور العلمي، ولجوء الكثيرين، بل هربهم إلى دول أخرى لتجد أفكارهم سبيلها ليس فقط للاستماع إنما إلى التنفيذ والممارسة حقاً.

تكمن الخطورة الفتاكة في الطرف الآخر الذي تمارس عليه العنصرية والقمع الفكري، والذي يبادر هو نفسه لمواجهتها بذات الطريقة والأسلوب واللغة، وأمامنا عشرات الأمثلة التي تطالعنا بها شاشات التلفزة، في حوارات تحمل عناوين رنانة عن احترام الرأي وفتح باب النقاش، لتنتهي الحلقة بحلبة مصارعة وتكفير وتخوين ورفض وتنمر.

إنّ العلاقة بين الأنا والآخر علاقة جديلة، لا يمكن تجاهلها ولا حتى إلغائها، فهي قائمة في طبيعة الحياة والبشر، كغيرها من الثنائيات الموجودة في الطبيعة، الخير والشر، الصدق والكذب، الماء والنار، النور والظلام، بما يعني استحالة وجود أحدهما دون الآخر، أو معرفة الواحد منهما دون معرفة الآخر، لذلك يقول فلاسفة علم الاجتماع إنّ رفض الآخر يأتي من الجهل بالدرجة الأولى، ولأنه لا يمكن معرفة الذات دون معرفة الآخر، جدير بنا أن ننعتق من العنصرية الفكرية والثقافية المعششة في عقولنا ونفوسنا، فما دمنا نصم آذاننا عن سماع الغير ونغمض أعيننا عنه، وننغلق في قوقعة الفكر الواحد والبيئة الواحدة، فإننا سنبقى في طريق النكوص والتراجع والتخلف، وسد الطريق أمام تلاقح الأفكار وتطور 

المجتمعات.