هل حققت العقوبات الأميركيَّة مُبتغاها؟

آراء 2023/05/30
...

 سناء الوادي 

 عندما يكون الاقتصاد أداة تدير السياسة الخارجية فمن المنطقي أن تستخدم العقوبات من دولة تجاه دولة أخرى ليس إيقاعاً للضرر فحسب وإنما لاستغلاله كجزء من المفاوضات، التي تفضي بالضرورة إلى الحصول على تنازلات ومكاسب دبلوماسية وسياسية، هل وصلت الولايات المتحدة الأمريكية حد التطرف بإحكام قبضتها على الاقتصاد العالمي، بوصفها القطب الأوحد فيما مضى من السنون التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفياتي

وعلى اعتبارها المموّل الأكبر للبنك الدولي وصندوق النقد غدت تصول وتجول كيفما أرادت، تارةً تمنع إقراض هذه الدولة ومساعدتها وأخرى تمنع التعامل مع صادرات تلك الحكومة أي حرمانها من الأسواق الدولية وتقييد أنشطتها وتجارتها، وفي ثالثة تجمّد الأرصدة البنكية لمن تنوي معاقبتها وتحرم غيرها من التعامل بالنظام المالي الخاص بها « سويفت « وتحظر استثمار الشركات الأجنبية فيها.

إن هذا السلوك البديل للحرب الفعلية ليس بالأمر المستحدث على واشنطن، بل بدأت فيه منذ تسعينات القرن الماضي عندما فرضت على العراق الحصار الجائر الذي استمر ثلاثة عشر عاماً، وأنهك العراقيين وقتل ما يقرب من اثني مليون شخص، وقبل ذلك بكثير كان الحصار المفروض على كوبا، الذي استمر أربعين عاماً، لكن العقوبات أحادية الجانب التي مارستها واشنطن بعدما انهار الاتحاد السوفياتي ازدادت بشكل ملحوظ، لربما بسبب انفرادها بالساحة العالمية وهيمنتها على المنظمات الدولية الفاعلة كمجلس الأمن فصارت تستعين به لإضفاء الشرعية على قراراتها ففرضت عقوبات اقتصادية متنوعة على ثلاثين دولة فقط في فترة التسعينات منها يوغوسلافيا و راوندا وليبيا والسودان وغيرها. 

وفي السياق ذاته شهدت العقوبات الأميركية منعطفاً مهمّاً بعد هجمات الحادي عشر من أيلول في 2001م فأصبحت أكثر عدوانية في إطار الحرب التي أعلنها الرئيس جورج دبليو بوش على الإرهاب، فنهجت معاقبة الأفراد والشركات حتّى الأميركية منها وحظرها من التعامل مع الدولة المعاقبة، كتلك التي نزلت بكل المؤسسات التي تتعاون مع إيران ووسع العقوبات الثانوية لتشمل بنوك المال، وهنا من الجدير بالذكر أنه حتى الصين خفضت من شرائها للنفط الإيراني بنسبة 20 % في عهد الرئيس باراك أوباما، ناهيك عن روسيا التي طالتها العقوبات في العام 2014م بعدما ضمّت إليها شبه جزيرة القرم.

من الإنصاف أن نعترف أن تلك العقوبات أتت أُكُلها عدة مرّات نذكر منها الاتفاق النووي مع طهران وتعليق برنامجها في تخصيب اليورانيوم، كذلك الاتفاق مع موسكو في مينسك، بعدما ساهمت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالدبلوماسية، التي منعت اندلاع حرب مع الناتو آنذاك، لكن واشنطن توحشت في استخدام هذا الأسلوب ليطول الحلفاء والمنافسين، كتلك التي فرضت على الصين لمنعها من امتلاك التكنولوجيا الخاصة بأشباه الموصّلات وإيقاف عجلتها الاقتصادية عن 

الدوران.

مؤخراً أدركت الدول قاطبةً أهداف واشنطن في الهيمنة والتكسّب، مستغلةً الدولار كعملة عالمية وركيزة أساسية للاقتصاد، فضلاً عما أفرزته العولمة من ترابط متزايد للدول بما معناه امتثال المصارف والشركات الأجنبية لرغبات أمريكا حفاظاً على حصتهم من السوق الكبيرة، وحماية لمكانهم في النظام المالي، ومع بداية الصعود لدول كبرى تسعى لتغيير القطب الأوحد وتعدد الأقطاب كان لزاماً عليها ابتكار دروع تقلل من فعالية العقوبات عليهم إذا ما غضبت منهم دولة العم سام وهذا ما سمي بظاهرة مقاومة العقوبات ففي مقال نشرته مجلة فورين أفيرز تحدّث عن نهاية عصر العقوبات حيث بات أعداء أمريكا يبدعون بحماية أنفسهم من العقوبات والالتفاف عليها كأن تنحو البلدان لإيجاد نظام مالي رقمي بديل لسويفت، ودأبت بتوقيع اتفاقيات مبادلة العملات فمثلا الصين وقعت مع ستين دولة مثل هذه الاتفاقية، فكان حلّاً ناجعاً للخروج من قيد الدولار في التعاملات البينية، إضافة للهند التي تعتبر حليفة لواشنطن أعادت تفعيل مبادلة العملات مع موسكو بعد توقفها إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، فكانت ضربة قاسية لواشنطن فقد اشترت صواريخ اس 400 من روسيا بقيمة خمسة مليارات دولار، لكنها تمت بالروبل والروبية والتفت إلى واشنطن، التي أرادت منع إتمام هذه الصفقة، ناهيك عن التحايل الذي تمارسه الدول للاستفادة من عملاق الطاقة الروسي بعدما فرضت عليه أمريكا وأوروبا حظر بيع النفط والغاز ووضع سقف

لأسعاره.

من الجدير بالذكر أن كوريا الشمالية رغم كل العقوبات القاسية، امتلكت السلاح النووي وكذلك إيران في طريقها للوصول، وروسيا ضمّت أقاليم من أوكرانيا والصين تنهض وبقوة وباتت تمتلك تكنولوجيا قد تتفوق على الأميركية، وأنّ تركيا باتت تصنع السلاح، وغير ذلك الكثير من الأمثلة على أن أسلوب واشنطن الاقتصادي هذا سينقلب عليها ذات يوم وسيؤدي حتماً لتجزئة النظام العالمي، وتحويله لجزر منفصلة عن بعضها البعض مما يهدد عرش أميركا، فقد بدأت بالفعل خطوات عملية لتجهيز نعش الدولار بما تتفق عليه الدول من تفعيل لعملاتها المحلية والتبادل التجاري بها، فقد أثبتت التجارب والأحداث عدم الموثوقية بأمريكا لا كعدو ولا كحليف.