رعد أطياف
من بين كل الظواهر النفسية ظل الألم ضيفاً ثقيلاً غير مرحب به، وموضوعاً لشتّى أنواع الصراع؛ تارة يكون سبباً للضغينة والانتقام، وأخرى يكون حافزاً قوياً واستثنائياً لكلِّ أنواع الورع المُصطَنَع.
وربما في التحليل الأخير تبدو هذه الأمور كما لو أنها تكتيكات للهروب من شيء شديد الوطئة لم تهضمه أُلفتنا لحد الآن.
أنه مرجلٌ هائل لكل أنواع السموم والقاذورات، مثلما درجت العادة على تفسيره، والعدو الأول والأخير الذي يهدد سكينتنا المزعومة، وبيت الأحزان الكبير.
بيد أننا لم نعصر ما يكتنزه من رحيق متدفق على الدوام! فقط إننا نتخيل الرحيق سمّاً والعكس بالعكس؛ نتخيل الهروب من الألم ستراتيجية ناجحة لكنّه، كما قلنا، تكتيك يؤجل المواجهة إلى إشعار آخر، وفي هذه الأثناء يتورّم الألم وينفجر ويكتسح كل أرجاء الروح، ولأنه منظور إليه من وجهته الشهيرة (بوصفه سمّا زعافًا) فحينئذٍ يغدو سبباً مباشراً لكل عصاب، وتبقى دلالاته محصورة في المعنى السائد، أعني بوصفه سمّاً، وشكلاً وحيداً من أشكال المعاناة.
لكن لو قررنا يوماً ما مواجهته، بمعزل عن أي تفسير شعبيّ، بوصفنا نحلاً لا ذباباً! ربما سنطلٌّ على مدارات لطالما كانت موصدة في وجوهنا.
أعرف أن الكلام في وادٍ والتجربة في وادٍ آخر، وأعرف كذلك الفارق الرهيب بين التجربة الشعرية والتحقق الفعلي من موضوع ثقيل للغاية مثل الألم، لكن ما أود قوله، لنفسي أولاً وبالذات، إن الحياة مبنية على الِإقدام الجسور والاختراق الباسل لعتبة الألم، ونحن الكائنات البشرية نتفاضل فيما بيننا حسب مواجهتنا وفهمنا لمعنى الألم؛ إما أن نواجهه، إذا أقبل علينا، محاولين فهمه وفك طلاسمه وتفجير طاقاته الكامنة، أو نسقط صرعى لإسقاطاتنا وهلوساتنا النفسية التي يسببها الوجه الآخر(الشائع) للألم.
معلوم ما يمتلكه الألم من سلطة مخيفة على الذات لدرجة أنّه يشلّها ويعتصرها ويجمّد كل إمكاناتها التأويلية ويغدو التفسير الوحيد الحاضر هو مطابقة الألم لنفسه: اصطكاك، انقباض، ذهول، تشبّث بالأوهام، خيالات مريضة، البحث عن مسبّبات خارجية لتصريف الألم من خلالها، استدعاء الأجواء المساعدة لتضخيم حِدّة الألم! واستحضار الأفكار المشابهة التي تُشعِلَ فتيل الأفكار الملتهبة، حزمة متراصّة من التعذيب المتواصل.
بتعبير أكثر وضوحاً: نحن لا نستدعيها طوعاً بل نغدو جزءاً لا يتجزأ من هذه الموجة المرعبة وندخل في دوّامة مُدَوِّخة من أشكال التعذيب، لا يسلم منها حتى الآخرون بوصفهم مسببين وهميين لما نعاني منه! وعليهم أن يدفعوا الثمن كمقابل لسكينتنا.
كلّما توهمنا ترويض جموح تلك الأفكار المؤلمة ازداد نزيف الأفكار بشكل مضاعف وتَفَتّقَتْ الجروح الأخرى أكثر من ذي قبل.
كل هذا يحدث لأننا نقاتل كما الذباب، كما هو موّضَح، لا كما النحل: أن نحلل الألم بتأن وأن نتتبعه لمسقط رأسه(الفراغ!..) أن نقلب العملة لوجهها الآخر(الرحيق؟) وأن نكتوي قليلاً بجمر الألم، فحتّى السم بعد الاستخلاص يغدو ترياقاً يشفي من السم الذي يشابهه من حيث المادة، فكذا الألم؛ قليل من الصبر والتأني والتلطّف بالذات وتحليل مصادره سيكشف عن ماهيّته في نهاية المطاف.
لا يختلف الألم عن الأوكسجين؟! فكلاهما نسغ الحياة! هل يمكن تخيّل حياة بدون ألم مثلما لا يمكن تخيلها بدون أوكسجين؟ غير أن حكمة الكلام شيء وحكمة التجربة المباشرة شيء آخر، ذلك أن المواجهة تبدو مزلزلة في كثير من الأحيان.
قال نيتشة «أن نفكّ النفس البشرية يوماً ما من عراها حتى تصدّع وتخرج عن طورها، أن نغرقها في الذعر والصقيع واللظى والشغف، بحيث تفلت، كما بصاعقة، من كل صغائر الأمور التي تدفع على الشعور بالضيق والانقباض وتعكّر المزاج..».