تحدٍّ مهم لتراث العمارة الغربيَّة

ثقافة 2023/05/30
...

  روان موور* 

  ترجمة: مي اسماعيل


افتتح بينالي فينيسيا للعمارة "La Biennale di Venezia" يوم السبت العشرين من أيار 2023، ليستمر حتى الأحد السادس والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 .

نظمته هذا العام الأكاديمية والروائية الغانية-الاسكتلندية "ليزلي لوكو-Lesley Lokko" تحت شعار "مختبر المستقبل".. تقول لوكو: "هناك فرصة فريدة للمعماريين لطرح أفكار طموحة وإبداعية، تساعدنا على تخيل مستقبل مشترك أكثر إنصافا وتفاؤلا". 

بينالي فينيسيا معرض كبير يُقام كل سنتين، ويُركز على الجديد في الفن والعمارة، يقام عادة في أجنحة وطنية وحدائق حصرية، صُمِمت أساسا قبل الحرب العالمية الأولى؛ لتعكس تغير المنظور العالمي للقرن العشرين. 

واستقر جانب من العروض في هيكل لمبنى "الكورديري-Corderie" التاريخي؛ وهو مصنع للحبال قرب مخازن الذخيرة القديمة التي كانت تخدم المدينة أيام سطوة امبراطورية البحار. 

كان البينالي حتى الآن ذا منظور أوروبي؛ إذ غالبا ما تحظى نتاجات بريطانيا وفرنسا وألمانيا بمواقع العرض المتميز، وتكون الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى على جانب؛ وبعض مشاركات دول أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. 

يمكن القول إن لوكو قد نجحت في مهمتها بإظهار مواهب لم تكن قد حظيت بالتقديم سابقا؛ من أفريقيا وآسيا ومناطق العالم الأخرى؛ بعدما كان الفن الأوروبي مهيمنا على البينالي. 

وهذا العام شرع البينالي بفسح المجال أمام فنون لم تحظ بتمثيل عادل مسبقا؛ خاصة عمارة الأفارقة المحليين وفي الشتات. 

تهدف لوكو الى تقديم عمارة ذات موارد طبيعيّة متميزة عن غيرها؛ وهذا الطموح العام يشمل أيضا "إزالة الكربون" و"إنهاء هيمنة الاستعمار"؛ وهي أساليب للبناء أقل استغلالا للبشر والطبيعة عما مضى، ولعلها لا تتطلب الكثير من التشييد أساسا.

تُمدِّد لوكو تعريفات ما يُصطلح على تسميته عادة "العمارة" لتشمل الفن والأداء والألعاب والنشاط، والطرق الأخرى للعيش في الفضاء المادي، المتاحة لأولئك المحرومين من القدرة والموارد لبناء هياكل كبيرة دائمة. 

لا يوجد هنا الكثير عن مشاريع العمارة التقليديّة؛ ما عدا نماذج من أعمال مكتب المعماري البريطاني السير "ديفيد أدجاي- David Adjaye"‏، (الحاصل على رتبة الإمبراطورية البريطانية وخريج الأكاديمية الملكية للفنون)؛ ومنها- الكاتدرائية الوطنية في غانا ومتحف مستقبلي في نيجيريا سيضم تحف برونزيات بنين المستعادة. 

أما النموذج الأولي لمساكن الطوارئ من تصميم المعماري "نورمان فوستر" فقد أُقيم خارج حدود مباني المعرض؛ ليكون بمثابة استطلاع منفصل عن القيم الأخرى، ضمن عينة عشوائية من السكان تعكس روحيّة الشباب والخبرة المحليّة.

جرى التركيز على طرق لإنشاء المأوى لا تقوم على منشآت ثقيلة؛ مثل استخدام الأنسجة أو الطين في البناء، أو حتى الاستفادة المثلى من الهياكل الموجودة. أما الأجنحة الدوليّة التي لا تقع ضمن التنسيق المباشر للوكو؛ فقد جرى تشجيعها على أن تتبع ذات النسق. احتلت المنتجات الفنيّة لشعب "سامي- Sámi" أجنحة دول الشمال (الاسكندنافية)؛ لتُنتج طوفانا من الأخشاب وجلود الرنة والألوان قام بتجميعها المهندس المعماري والفنان "جوار نانغو". 

تبدو فقرات هذا البينالي أحيانا شحيحة وقليلة التجهيز، ولعل السبب يعود لحقيقة أن المُشاركات السابقة كانت تعتمد على المكاتب المعماريّة الكبيرة؛ مما كان يتيح الحصول على تمويل إضافي. ولكن إذا أخذنا بالاعتبار تغير الوتيرة والاتجاه الذي اتبعه البينالي منذ أكثر من قرنٍ الآن؛ فلا عجبَ أن يكون مسعى لوكو غير مكتمل في بعض الأماكن. لكنها نجحت عموماً في الهدف الرئيس؛ وهو- توضيح كيف ينظر العالم الى أشخاص لم ينالوا قبلا سوى مقاربة محدودة إلى هذا النوع من المكانة والحضور التي يمنحها بينالي 

البندقية. 

أظهرت لوكو عوالم ذات ماضٍ عميق، جرى (حتى وقت قريب) إنكارها كثيرا عن طريق حاضر مختلف يمتلك فرصة القفز المباشر الى المستقبل. ويُقدّم الفضاء الأكثر إبهاراً هنا، للفنان والمعماري النيجيري- الأميركي "أولاليكان جيفوس" تجسيداً مادياً لهذا الأمل: صالة تخيّلية كانت بمثابة بوابة أفريقية بالكامل، تحيطها صور نباتات مورقة وآلات مستقبلية: شبكة نقل خيالية مستدامة، صنعها تعاون دول نفضت عنها الاستعمار.. وهي أيضا (كما يأمل المنظمون) نقطة انطلاق لا يمكن أن يتراجع عنها بينالي فينيسيا ومعارض أخرى مشابهة بعد الآن.    

أكثر من نصف المشاركين في بينالي هذا العام من أفريقيا؛ وهو ردٌّ (من منظور لوكو) على عدم اكتمال قصّة العمارة كما تعارفنا عليها؛ قائلة: "أفريقيا أكثر القارات شباباً، والأسرع سيراً نحو الحضريّة؛ ولديها العدد الأقل من المعماريين".. لذا باتت أفريقيا موطنا للتغير المتسارع والابتكار، والأقل إثقالا بالهياكل المهنيّة؛ ويمكن فيها.. "أن تفوق سرعة التغيير قابلية الناس على فهمه". تمضي لوكو قائلة: "هناك إحساس في أفريقيا ان هذا هو وقتنا وزماننا، وتلك العوامل تجعل من أفريقيا موقعا لتشكيل مستقبل يحمل إبداعا وتصورات لا يمكن توقعها". وتحت شعار "مختبر المستقبل" لبينالي فينيسيا 2023، تهدف لوكو أن تجعل.. "أفريقيا تتحدث الى 

العالم".  

تقول لوكو إنَّ أشياءً مثل الخيال والإبداع كان يُنظر إليها سابقاً على أنّها امتياز للنصف الشمالي من العالم، وتؤكد أنّها لا ترغب (حينما تُروى قصة العمارة) بنبذ مباني صممها أشخاص بيض ماتوا منذ زمن؛ بل أن تعرض فقط ان أساليب أخرى توجد أيضا. ولذا دعت مصممين شبابا ليكونوا.. "ضيوفا من المستقبل"، كان أصغرهم في الرابعة والعشرين. وجرى "توسيع" تعريف العمارة عنا ليشمل.. "الأفلام والصحافة الاستقصائية، وتكييف إعادة الاستخدام واستصلاح الأراضي، والممارسات المجتمعيّة على مستوى القاعدة". قد لا يبدو واضحا الى أين سيقود هذا التوجه؛ لكنّه أساسا تشجيع للشباب للوصول الى أبعد من حدودهم الاكاديميّة والمهنيّة، نحو الاقتصاد والسياسة والنشاط الاجتماعي.. وفي تلك المجالات؛ كما تقول لوكو.."قد لا تكون الأمور مستقرة غالباً، وفي غياب الاستقرار ذاك عليك أن تتعلّم كيف تكون عالي التكيُّف".


*صحيفة "الأوبزيرفر" البريطانية