قــراءةٌ فـي روايــة {مــات الـرجــل}

ثقافة 2023/05/30
...

   حربي محسن عبدالله

عندما يتحول الإنسان إلى مجرد رقم في السجلات، تكون دورة اللاجدوى قد اكتملت حول أعناق الضحايا، وبدأت {التراجيديا التي لا تتعدى كونها طريقة للتعويض عن التعاسة البشرية، لاحتوائها، ومن ثم تبريرها على أنها ضرورة أو حكمة أو تطهير}. لكن (لا يستطيع الإنسان أن يقبض على وجوده الأصلي إلا عبر التصدي لتقلبات الحياة) هذا ما يؤكده وول سونيكا في روايته {مات الرجل} الصادرة عن دار التكوين في دمشق، ترجمة: د. راتب شعبو.

وهي رواية أحداث يومية بطلها الكاتب نفسه، تحكي عن سجين يحلم بالحرية ويسعى لخلاص وطنه من نير الجهل والتخلف والصراعات القبلية التي تجرّ من ورائها مذابح متواصلة وإبادة عرقية في مجتمع تطحنه المصائب المتلاحقة، فقد استنزف المستعمر خيرات البلاد وزرع في أرضها بذور الشقاق والعصابات المسلحة الطامحة للسلطة عن طريق الانقلابات العسكرية وتشديد قبضتها على رقاب الأحرار من الوطنيين. 

تلك العصابات التي لا تأخذ بالحساب سوى ردود الأفعال الدولية التي قد تهدد سلطة الانقلابيين.

ومواقف الدول الاستعمارية السابقة تتحرك هي الأخرى وفق مصالحها فما أن تكون تلك المصالح بأيد أمينة حتى تدير ظهرها عن مصالح الشعوب وتقف متفرجة على مصائبها وويلاتها وجرائم الإبادة وكل الانتهاكات التي تمارسها العصابات الحاكمة. 

قبل أن نقلب معاً صفحات الرواية نتوقف للتعريف بالكاتب الأفريقي النيجيري. 

يحتفظ وول سوينكا الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام ‏1986‏ بمكانة متميزة للغاية‏،‏ بوصفه أول أفريقي يفوز بجائزة نوبل للآداب‏،‏إذ استطاع أن يقدّم نفسه كأحد أهم كتاب القارة الأفريقية في العصر الحالي‏.‏ 

وول سوينكا من مواليد 1934م في أبيوكوتا - نيجيريا. 

فضلا عن كونه بالأساس واحداً من أكثر المناصرين والمقاتلين الشرسين من أجل قضية الهويّة والثقافة الأفريقية والنظام الاجتماعي الأفريقي وحمايته من ثقافة المستعمر. 

وول سوينكا، كاتب أفريقي بامتياز، معارض ومناضل وسياسي، ومدافع بشراسة عن حقوق الإنسان أيّا كان، وهو السجين والهارب والمنفي، وهو الروائي والشاعر الذي سعى إلى نحت هوية حديثة لأفريقيا، أفريقيا الحروب والاضطراب والجوع، ولكن أيضا أفريقيا الآمال والأحلام. 

يعتبر سوينكا- الذي كتب الشعر والرواية والمقال السياسي العنيف - من أشد المعارضين للإدارات النيجيرية والمستبدين السياسيين في شتى أنحاء العالم ومن بينهم نظام الرئيس روبرت موغابي في 

زيمبابوي. 

وقد شهد عام 1967 أول تصادم بين سوينكا والسلطات النيجيريّة بعد أن اعتقلته الحكومة الفيدرالية للجنرال ياكوبو غوين ووضعته في الحبس الانفرادي لسعيه للتوسط لعقد اتفاق سلام أثناء صراع البايفران. 

وقد قضي سوينكا 22 شهراً في السجن قبل الإفراج عنه بعد استهجان دولي واسع. 

وعند سؤاله مؤخراً عن دوره اليوم في نيجيريا يقول: "لطالما كان نفس الدور وهو ضمان صوت المواطن في تحديد مصير وطنه. 

وهو الأمر الذي لم يكن يوما بالهين. 

ففي بداية تسعينيات القرن الماضي ترك سوينكا وطنه خوفا على حياته. 

فترة السجن هذه هي التي يرويها لنا في "مات الرجل" ليؤكد دعوته للحياة وهو يصطدم بعبثيَّة هذه العبارة فيقول (صعقتني العبارة في بادئ الأمر، بدتْ غريبة ومع ذلك لها ألفة خاتمة حكاية تربويّة. 

شعر هزلي "وكأنَّ الكلب هو الذي مات" بطريقة نطق من يتعلم مبادئ اللغة). 

ثمة مساران في هذه الرواية، الأول يذهب بعيداً في تفصيل ما يجري حول سونيكا في معتقله. 

وهو يصف ظروف الاعتقال، والأمراض المتفشية بين السجناء، والتهم التي اعتقلوا بسببها، والانتماءات القبليّة التي ينتمي لها هؤلاء الرجال. 

يسلط الضوء على الفسيفساء القبليّة والدينيّة في نيجيريا ويعرّف القارئ عن مدى تشابك الخيوط التي تشكّل النسيج الاجتماعي في بلد لم تنقذه الفيدرالية من الخلافات التي تضرب بجذورها عميقاً في البنية المجتمعيّة. 

صرُّ سوينكا على المضي قدماً في الطريق الذي اختطه لنفسه من أجل العدالة التي هي بالنسبة له الشرط الأول للإنسانيّة ويدعو القارئ أن يصغي إلى ما كتبه أدولف جوفه لتروتسكي قبل أن ينتحر: "لا تنطوي الحياة البشريّة على معنى إلا بقدر ما، وطالما تعاش في خدمة الإنسانيّة. 

بالنسبة لي الإنسانيّة لا نهائيّة". 

أما المسار الثاني فيتمحور حول معاناة الكاتب نفسه في هلوساته وصراعه مع ذاته وأفكاره الداخلية ومحاولاته الحثيثة للصمود بوجه العدو الذي ينبثق من اليأس الذي يمور في النفس ويهزّ القناعات فيتصادم مع الروح الحرّة الرافضة للاستسلام لهذا العدو الداخلي. 

يصف لنا الكاتب كيف يقع الانسان فريسة المخاوف من فقدان العقل وهو في أتون عذاب متواصل وانتظار بلا جدوى يسحب أيام العمر رويداً رويداً نحو بئر النسيان. 

ثم ينتقل إلى حالة أخرى فيكون بين اليأس والرجاء الذي يطير بأجنحة خياله نحو الحرية البعيدة المنال ويفيق من أحلامه على  كوابيس الانتظار فينطوي على نفسه داخل كبسولة أو حلزونة على حد تعبير الكاتب نفسه، يختبئ داخلها ويمدّ مجساته ليكتشف ما يدور حوله وهو آمن في مكمنه. 

يصف هذه العزلة قائلا: 

"ومن رؤية نفسك تحت رحمة قوى مغفلة بلا ملامح يأتي الإرباك العميق الثقيل بالعزلة الكتيمة". 

أخذنا الكاتب عبر كلماته التي تشبه الشعر في العديد من المقاطع في جنبات الرواية ليذكرنا بأن وول سوينكا ليس روائياً فحسب بل شاعر أيضاً فثمة قصائد له هنا وهناك وثمة فقرات تقترب من الشعر نقرأ مقطعاً يقول فيه: 

(في لحظة سكينةٍ عميقة خرجت من أصداء الأصوات في الشوارع، من أصوات الأسواق، من الهمسات في الممرات، من اختلاسات النظر في التجمعات، خرجت من مطر البصاق والاحتقار، خرجت من الدريئة التي تشير إليها الأصابع، من القهقهة في الظلام، من انحناءات الرأس الحكيمة للضمائر الشائخة، خرجت من السخرية ومن الحسد المرتوي ومن بهجة من يخدع نفسه.

شيئاً فشيئاً وبشكل ملتوٍ رحت أستكشف ذهن العدو وأخطار المستقبل).