العبوديَّة واللون بين النظرة العنصريَّة والجماليَّة والتجاريَّة

آراء 2023/05/30
...






 د. فيصل غازي مجهول


انتشرت عبر التاريخ أنواعٌ من التفرقة بين الناس؛ تفرقة مبنية على اللون أو الطبقة الاجتماعية أو الدين أو القومية أو المنطقة أو أشياء أخرى… وقد عانى الناس في كثيرٍ من بلدان العالم من كونهم «ملونين»، ولم يكن الأمر يخص «الأسود» (الأفريقي) وحسب، بل أي شخص لونه ليس لون الأبيض ذي الأصل «الأوربي».

فالأبيض الشرقي – مهما اشتدَّ بياضه - «ملون» في عرفهم؛ ذلك أنها ليست قضية تدرجٍ لوني وحسب، بل هي قضية وجود وعرق وحضارة وتاريخ ومنفعة وتجارة وتسلط… وأشياء أخرى. 

ومضى الزمان وحصل الملونون أو سود البشرة على حقوقهم بعد معاناة طويلة مع الأنظمة العنصرية، وبعد أن قدموا تضحيات كبيرة. 

وقد نادى بعض قادة الإصلاح (من البيض) بالمساواة وبعدم النظر إلى الإنسان استناداً إلى لونه، وأقوال المصلحين والمنصفين والمتعاطفين مدونةٌ معروفة. 

فالوقوف ضد الظلم، والدعوة إلى العدل، لا يخص أصحاب الشأن فقط بل المتعاطفين معهم حتى إذا كانوا من لونٍ آخر أو من طبقة أخرى.. كالرجال الذين يدافعون عن حقوق المرأة وكالأحرار الذين يدافعون عن حقوق العبيد، وكالمنتمين إلى الأكثرية الذين يدافعون عن حقوق الأقليات... وأمثلة أخرى كثيرة. وأسوأ ما في التفرقة أنَّها تجعلك مسؤولاً عمَّا لم تختره؛ إذ إنك لم تختَر لوناً ولا طولاً ولا وزناً ولا منطقةً ولا نسباً ولا عشيرة ولا أي عضو من أعضاء جسدك، بل لا معنى للاختيار هنا، لأنك لم تكن قد تكوَّنت بعد. 

وأضفْ إليها أن أكثر الناس لم يختاروا ديناً ولا طائفة ولا قومية ولا لغة ولا وضعاً اجتماعياً ولا بيتاً… ثم يأتي من يصنف الناس على ما لم يختاروه، وإن كان التصنيف ينطبق على الجماعات، فإنه لا ينطبق قطُّ على الأفراد الذين صنعوا الشيء الكثير من شخصياتهم واختاروا شيئاً من هوياتهم وربما من مصائرهم. 

فالفرد قد يختار، إذا سمحت الظروف، طريقةً في الحياة أو ديناً أو ثقافة. 

وإذا تفاخر بعض الأشخاص، بما ليس عندهم غيره كالنسب الديني أو العشائري أو المناطقي أو الطبقي… فإن الفرد الشخص المختار يعتز بأنه قد تخلص من كل هذا وتجاوزه.

لكن هذا الأمر لا ينتهي بسهولة، فالجيل الذي عانى من تلك التفرقة، لا يزال حياً ويتذكر المأساة التي مرَّ بها، ويسعى بعض الأشخاص والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان إلى عدم تكرار تلك المأساة. 

فالتفرقة موجودة بكل أنواعها، كما أن العنفَ موجودٌ والحرب والإبادة والظلم، ويمكن أن يتفجر أي شيء في أية لحظة، لكن هناك من يسعى دائماً إلى الحدِّ منها؛ على الأقل من خلال عدم إشاعة نوعٍ من خطاب الكراهية أو العنف أو التفرقة...

قد تنتقل المطالبة بالمساواة ورفع الظلم من الجانب الحقوقي أو القانوني إلى الجانب التاريخي والفني والديني. 

فالمسيح على سبيل المثال كان يُرسم دائماً بملامحَ أوربية؛ أبيض، أشقر، بأنفٍ أوربي… وإذا كانت المسيحية قد نشأت في الشرق فإنها انتشرت شرقاً وغرباً ثم أصبح مركزها في أوروبا الغربية والشرقية.. كاثوليك وبيزنطيين. 

لكن هذا قد سببَ بعض الإرباك للمتدين “الأسود”، الذي يهمه لونُ إلهه في أيام التفرقة العنصرية، وأثار اللون أسئلةً عدة، فكلُّ ما هو جيدٌ أبيض، وكل ما هو سيئ أسود.. الله والملائكة والأعمال والأفعال! ومرَّ الزمان ورُسم المسيح وحواريوه بملامحَ أخرى، تميل إلى السمرة أو حتى إلى الشكل الصيني، فما عادت المسألة مهمة، إنها رموز وحسب.. مع ذلك وبحكم الولادة والنشأة في منطقة جغرافية معينة سيكون شكله أقرب إلى أشكال الناس في تلك المنطقة، وهذه المسألة لا تعني الشيء الكثير لأصحاب الإيمان العميق، وللقادرين على التجريد، لأنهم يعرفون الله بعمق إيمانهم لا بلونه أو لغته؛ وإلا فإن أكثرهم ينفي التشبيه والتجسيم.. ولا تعني شيئاً للدعاة والمبشرين، لأنهم يخاطبون الناس جميعاً. 

وكل هذه مسائل رمزية بحسب بعض التفسيرات. 

وهكذا عن صور الأنبياء والأولياء والحكماء في مناطق العالم كله.

ثم جاءت موجة أخرى أرادت - ربما من باب التكفير عن ذنبٍ قديم أو من باب حسن النية أو لأمرٍ ما يتعلق بمسألة عمليةٍ تجاريةٍ نجهلها - أن تجعل بعض الشخصيات ذات بشرة سوداء، وما كان يمكن أن تكون تلك الشخصيات سوداء البشرة بحكم الأسطورة والرواية والمكان والسياق؛ لكنهم حاولوا التركيز في الفكرة والرسالة وابتعدوا عن اللون والمطابقة. 

فَليَكُن زيوس كبير الآلهة أبيض أو أسود.. فإنه سيبقى كبير الآلهة، فانتبِه إلى صفاته الأخرى ولا تنتبه إلى لونه. 

لكن آلهة اليونان تُشبههم! فالإله اليوناني والإلهة اليونانية كالبشر من حيث اللون والشكل واللغة، ولا يمتازون عنهم إلا بأنهم خالدون وأكثر قوة. 

كما أننا لا نتصور إلهاً من الآلهة الأفريقية أبيض اللون، إلا إذا كان بياض البشرة يدل على شيءٍ ما! وقد قيل قديماً إن الناس يتصورون الآلهة مثلهم، ولو كان للحيوانات آلهة لتصوَّروها على أشكالهم.

في الأفلام الحديثة التي تدور أحداثها عن الأساطير اليونانية تظهر بعض الشخصيات باللون الأسود، ولا توجد إشارة تاريخية إلى هذا اللون الأسود، لكن توجد دلالة فنية.

في فيلم “طروادة” كان الممثل براد بت يمثل دور أخيل، وجسمه وملامحه يمكن أن تتناسب مع هذا البطل. 

وفي عملٍ آخر مثَّل دورَ أخيل ممثلٌ ذو بشرة سوداء أتقن الدور وكأنك أمامَ أخيل الذي قرأتَ عنه وتخيلتَه، من حيث القوة والشجاعة والبطش لا من حيث اللون… ولا مشكلة في العمل الفني إذا تغلبت الحقيقة الفنية على الحقيقة التاريخية أو على حقائق أخرى، لكن يبقى في البال سؤال عن أخيل ذي الشعر الأصفر وأمه ثيتيس ذات الأقدام الفضية… إنها أوصاف للبيض، قد تصطدم بما علق في الذاكرة والخيال عن هؤلاء الأبطال.

هل يبرر الفن وحقوق الإنسان والمجاملة استبدال اللون؟

وهل يفرح الملوَّن أنه قد أصبح بطلاً تاريخياً بدلاً من الأبيض القديم؟ 

سواء أكان أخيل أم الإسكندر المقدوني أم أرسطو؟

وماذا لو عكستَ الأمر واخترتَ ممثلاً أشقر ليمثل دور عنترة بن شداد، وممثلةً شقراء لتمثل دور زبيبة؟

سيجيدون التمثيل بالتأكيد، لكنَّ السوادَ، والأنف والفم وحتى الاسم نفسه الذي هو صفة للسواد... جزءٌ من معاناة الأبطال وجزء من القصة وقد دخل في الحوار والأشعار. 

وهل تُفهم قضية مانديلا إذا مثَّل دوره ممثلٌ أبيض؟

وكيف يكون ذلك إذا كانت التفرقة كلها مبنية على اللون؟

وكذلك الأمر في جعل الطويل قصيراً والضعيف بديناً والعكس أيضاً... هل هو فن أن تجعل جنود الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية مثلاً قصيري القامة سمر البشرة؟ 

إلا إذا كان في الأمر سخرية! أو تنبؤ بالمستقبل! وهذا بحث آخر.

قد لا يمثل البيضُ دورَ الشخصيات التاريخية السود، إلا إذا غيروا ألوانهم وبعض ملامحهم بالمكياج، وهذا أمر مختلف عما أتحدث عنه. 

لكن العكس أصبح ممكناً، قد يكون محاولةً للاعتراف بالآخر الملون العبد المضطهد على مر التاريخ، من خلال الفن والتربية فضلاً عن القانون والأعراف.

وانتظر قليلاً ولا تستعجل.. سترى أن الإنسان هو الإنسان، فمن كان مضطَهداً في الأمس سيكون مضطَهِداً في الغد، والداعي إلى الحرية اليوم سيكون ضد من ينادون بها بعد أن ينال هو حريته... إلا.. إلا القليل من الأشخاص الذين لن يكونوا إلا استثناء من القواعد والسنن.

مَرةً، وفي “أوبرا” معينة؛ وقع الاختيار على ممثلة ومغنية لأنها الأكفأ، ثم اختاروا غيرها لأن الدور يتطلب أن تكون مريضةً بالسل، والأُولى كان جسمهاً صحياً لا يوحي بأنها مريضة، والثانية ضعيفة البنية وقد تكون أكثر ملاءمة للدور، فاختاروا الثانية لهذا السبب. 

فالشكل يساعد أحياناً في تعزيز الفكرة، وإن شيئاً من الاتساق مع طبائع الأشياء يُضفي على العمل الفني جمالاً أكثر. 

فلن نكون أكثر عدلاً إذا غيَّرْنا الألوان أو الكلمات.

فليبقَ أخيل أشقر وأرسطو أبيض والقديس توما الأكويني أبيض وبلال الحبشي أسود والحمزة أسمر وكونفوشيوس صيني الشكل… فليبقَ ديكارت وسارتر بيض البشرة كما أن الكندي وابن رشد وطه حسين سمر البشرة، فالمساواة لا تجعل السود بيضاً ولا تجعل البيض سوداً، لكنها تحترم إبداع الأسود والأبيض والأصفر… فالحكيم حكيمٌ مهما كان لونه، كما أن المجرم مجرم سواء كان طويلاً أو قصيراً أو سميناً أو نحيفاً أو أسود أو أبيض.

قد يكون في الأمر شيءٌ من فرح الضعيف المغلوب بالقليل من الحقوق، بالاعتراف ولو بكلمة. 

وقد تكون آليات الاستعباد الجديد مختلفة عن الآليات القديمة... ولا بأس من الفرح النفسي المؤقت للمغلوب أمام الغالب، على ألَّا يظن أنه فرحٌ حقيقي دائم، فالعنصري الغالب المنتصر المتفوق لا يتنازل عن فكرته ونظرته لكنه يستبدل الأسلوب، فيعطي المغلوبَ المسحوق شيئاً من الاعتراف، ثم يأخذ منه أشياء أخرى.

ولا أدري هل إدخال شخصيات ملونة أو فيها إعاقة معينة أو مثلية جنسية، قد أصبح فرضاً في الأعمال الفنية؟

قد يكون الأمر كذلك لأمرٍ ما!