ملوك التلخيص والاقتباس

ثقافة 2023/05/31
...

أحمد عبد الحسين

فئة جَديدة من المشتغلين بالثقافة هي الأنشط هذه الأيام؛ أولئك هم الذين يظنون أنهم قادرون على تلخيص كتاب في بضعة أسطر يتلونها على مسامع جمهور لا وقت لديه ولا مزاج لقراءة كتاب.

وفي التلخيص وقراءته والاستماع له، يخرج الجميع سعداء منتشين: الملخِّص لأنه استطاع أن يضغط 400 صفحة في خمس دقائق، وهذا إلى السحر أقرب منه إلى الثقافة؛ والمستمعون الذين استطاعوا قراءة كتاب كامل من دون أن يتعبوا أعينهم، فهم بين مشاهدة فيديو ممتع والفوز بلعبة بوبجي تمكنوا من التهام كتابٍ سيستطيعون أن يتحدثوا عنه بطلاقة.

لهذا فإنّ تبادل الخدمات بين الملخِّصين والمستمعين على أشدّه. فقد اكتشفوا أخيراً الوصفة التي كانت مخبأة منذ قرون عن أعين الإنسانية، تلك الوصفة التي تجعلهم قرّاءً من أهل الكتب بأقلّ قدر من الجهد وأدنى حدّ من استهلاك الوقت والطاقة الجسدية والنفسية. فهل هناك سعادة أكثر من ذلك؟

زمن منصات التواصل الذي هو زماننا لا يتيح معرفة تستحق اسمها، بل هو سيل معلومات “عشوائية غالباً” تقدّم بطريقة “سياحية”. 

المتصفح سائح، وكلّ ما في الصفحة التي أمامه يدعوه إلى قلبها سريعاً والذهاب إلى الصفحة الأخرى التي تدعوه إلى أخرى فأخرى من دون أن تكون لهذه المعلومات البرقية السريعة القدرة على جعله متوطناً مشدوداً إلى أرض.

الفارق الجليّ بين ساكن المعرفة وعابرها، هو ذاته الفارق بين المواطن والسائح، إذ الأخير لا يجد في نفسه واجب المشاركة في الحدث الذي يجري على الأرض إلا كمراقب مستمتع، بينما يكون على المواطن أن يتلمّس بعمق تأثير الوقائع على حاضره ومستقبله وتظل تحفر في ذاكرته ووجدانه عميقاً.

تلخيص كتاب ما وتقديمه ببضعة أسطر، فعلُ مرشدٍ سياحيّ إلى سائحين يريدون حين يعودون إلى أوطانهم أن يرووا لأهاليهم ما رأو. لكنّ الحقيقة أنّ المعارف التي يعوّل عليها في فهم الذات والعالم لا يمكن أنْ يحوزها إلا مواطن متجذر في أرضه، بذل جهداً ووقتاً واستغراقاً واستهلك مخزوناً نفسياً وروحياً من أجل أن يقرأ ويعرف.

هذا المرشد “القرائي”، هذا الدليل السياحيّ الذي يريد لمستمعيه الاستغناء عن الكتاب ببضعة اقتباسات وتلخيص مخلّ “وكلّ تلخيص هو مخلّ بالضرورة”  إنما يقدّم مادة سميّة لجمهوره، لكنها لذيذة، فمتعتها أنها تأتي إليهم من خارجها، أي من قدرتها على أن تجعلهم يتكلمون عن الكتب أمام أصدقائهم كلامَ العارف بها ليحوزوا صفة قرّاء ومثقفين من دون أن يغادروا وطنهم الحقيقيّ الذي هو وطن اللهو واللعب والمتعة التي تتساوى فيها البوبجي وكتاب لهيدغر.

لن يعترض أحد بصوتٍ واضح، فسيجابَه باتهامٍ مؤداه أنك تريد للثقافة أن لا تصل إلى الجمهور. وعليه فإنّ ملوك الاقتباس والتلخيص سيظلون يعيشون في زمنٍ هو زمنهم، ويتحركون في مجالٍ هو مجالهم الحيويّ، والسعادة الغامرة ترفرف على جموع السائحين.