الناقد باقر جاسم محمد.. حين يغادر الناقد الانطباعي سجن الذات يغدو أقرب للحداثة

ثقافة 2023/05/31
...

حاوره : خضير الزيدي


نسترجع في هذا الحوار الأخير مع الناقد الراحل الدكتور باقر جاسم محمد الحديث عن منهج بات بعيدا عنا وهو المنهج الانطباعي وكان من أبرز دعاته الناقد على جواد الطاهر في مرحلة من الحقب الزمنية الماضية وبعد أن تغيرت المفاهيم الثقافية وطرائق تحليل الخطاب النقدي وتأثر الكثير من النقاد العراقيين والعرب بالمنهج البنيوي والسيميائي والتفكيكي وخطاب النقد الثقافي ، نتساءل عن مدى فاعلية المنهج الانطباعي وآثاره في الدرس الأكاديمي، في هذا الحوار آراء وطروحات لا تخلو من أسباب منطقية لبيانها ولكن المختلف والمؤتلف تبينه الرؤية النقدية الثاقبة وهي تلاحق قراءة النصوص عبر التحليل الذي يميزها عن غيرها من الدراسات.. عن المناهج والنقد وأفكار أخرى حدثنا الدكتور باقر جاسم محمد:

• أريد معرفة المدى الذي يسمح لنا بالقول: إن ثراء وتعدد المناهج النقدية وتأثيرها في النقد المعاصر يمكن أن تكون من المؤشرات على موت النقد الانطباعي.

 

شكرا لك على هذا السؤال، ما أود قوله أولاً، هو استخدم مصطلح ‘مداخل’ بديلاً لمصطلح ‘مناهج’ فأنا أفرق بين هذين المصطلحين لأسباب لا مجال للخوض فيها هنا. وثانياً، إذا درسنا النصوص النقدية التي يجهر أصحابها بانتمائهم للنقد الانطباعي، فسنجد أنها نصوص أدبية بحد ذاتها. فهذه النصوص تعبر عن تجربة الناقد الانطباعي الذاتية الخالصة في عملية تلقي النصوص الأدبية في الشعر والقصة والمسرح. ومن هنا يمكن القول إن الناقد الانطباعي لا يجد نفسه مطالباً بأن يقدم كشفاً بالمسوغات التي اعتمدها في التوصل إلى آرائه النقدية، وفي الوقت نفسه، فإن هذه الآراء لا تنطوي على قوة حجاجية تجعل منها ذات أثر في نفس قارئها الذي سبق له أن قرأ تلك النصوص الأدبية التي تتحدث عنها المتون النقدية الانطباعية. وانطلاقاً من هذا الفهم للنقد الانطباعي، نجد أن المداخل النقدية المتعددة تقوم على أسس فكرية أكثر موضوعية من الأسس الفكرية الهشة للنقد الانطباعي، وهذا يجعلنا نؤكد أن ما أضافته هذه المداخل هو أنها غادرت طفولة النقد الأدبي أو بداياته التي تمثلت بالنقد الانطباعي إلى مراحل أكثر نضجاً وموضوعية فضلاً عن كونها تعتمد أسسا فكرية وفلسفية واضحة ترتبط، على نحو عضوي، بمواقفها من التجربة الأدبية على مستويات مختلفة مثل المؤلف، والنص، والمتلقي. فلكل من هذه الثلاثية الاصطلاحية (المؤلف، النص، المتلقي) أبعاده الخاصة في كل مدخل نقدي جديد، وهذا أمر نفتقده في النقد الانطباعي لأنه يكتفي بتصورات غامضة وبدائية عن مهمة النقد.

 

• طالما نشير للنقد الانطباعي، هل لي أن أسالك عن أهمية علي جواد الطاهر في هذا المجال؟ .

 

أستاذنا الراحل الدكتور علي جواد الطاهر مرب كبير, وباحث ذو أثر مهم في حقل الدرس الأكاديمي. وهو عرَاب التيار المعروف بالنقد الانطباعي في العراق. كما أنه كاتب مقالة أدبية ممتاز، وهو أحد الذين (كتبوا) كتاباً في منهج البحث الأدبي. ولكن، لو عدنا إلى ما أنجزه فعلياً في حقل النقد القصصي والروائي والمسرحي، فإننا سنكتشف أن كتاباته تفتقر، على نحو شديد الوضوح، إلى الشروط المنهجية المفترضة في البحث الأدبي، وما ذلك إلا لأنه كاتب مقالة أدبية لا بحث نقدي. فهو يكتب مشرقاً ومغرباً من دون أن يكون لحركته هذه أساس فكري أو فلسفي واضح، وذلك بإغواء من تدفق المادة اللغوية والمقالية لديه. ومع أن الطاهر قد أسهم فعلياً، في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، في تحرير الدرس الأكاديمي من كثير من القيود التي كانت تحول بينه وبين الانطلاق في رحاب معرفية جديدة، إلا أنه سرعان ما تحول إلى سد منيع إزاء أي تحولات حداثية في النقد الأدبي تتجاوز ما نشأ عليه من قيم معرفية ونقدية. وهذا ليس بمستغرب لأنه يتسق مع منطق الصيرورة الذاتية للناقد نفسه. وعلى أية حال، فإن جهوده في فرض صورة واحدة ووحيدة في النقد الأدبي قد ذهبت إدراج الرياح، فالجديد لا بد من أن يفرض نفسه. ويبدو لي أن سنة الحياة تجعل المرء مدافعاً عنيداً عن تجربته وعن حصيلته الإدراكية في وجه الجيل القديم في شبابه، ثم ينقلب الأمر، فتراه يقف في وجه الجديد الذي يناقض تجربته الذاتية وحدود معرفته في كهولته وشيخوخته. ولعل الأمر يصدق عليَّ شخصياً كما يصدق على كثير من النقاد.

• إذا ما تم تكليفك بتأليف كتاب يضم نصوصاً هي عبارة عن مختارات لإسهامات النقاد العراقيين، فماذا ستختار للدكتور علي جواد الطاهر؟

 

إذا كان المبدأ المنظم للكتاب يعتمد شهرة النقاد أو تمثيل الاتجاهات النقدية أساساً في الاختيار، فسوف يكون للدكتور الطاهر حضور فيه، أما إذا كان الاختيار للمقالة الأدبية، وهي موضوع مستقل قد لا يكون ذا صلة بالنقد الأدبي، فسوف يكون له حضور كبير. وأما إذا كان الأساس هو تمثيل الاتجاهات النقدية المؤثرة وذات الأهمية المعرفية والعلمية والمنهجية من خلال النصوص التي يتم اختيارها، وليس اعتماداً على شهرة صاحبها، فلن يكون له حضور في مثل هذه المختارات، فالدكتور الطاهر كان كاتباً مقالياً كبيراً، ولكنه ليس بناقد. ولتوضيح الفرق بين الاثنين أقول: إذا ما أردنا البحث عمن يمثل النقد الانطباعي، فعلينا أن نذهب إلى مؤلفات نقاد آخرين مثل الناقد فاضل ثامر وعبد الجبار عباس وإذا أردنا أن نبحث عن كاتب مقالة أدبية فالدكتور الطاهر هو خير من يمثل ذلك.

 

• أرى أنك تفرق بوضوح بين النقد الانطباعي والنقد الحديث، فهل يعني هذا أن النقد الحديث يخلو تماماً من الجوانب الانطباعية؟

 

قد لا يخلو النقد الحديث من بعض الآراء والعبارات الانطباعية، ولكنني أتحدث هنا عن الخصائص والسمات التكوينية العامة والمهيمنة في كل مدخل من المداخل النقدية المختلفة. وحتى النقد الانطباعي فإنه لا يخلو من بعض الوصف والتحليل في بعض الأحيان، ولكن ما يميزه هو السمة السائدة فيه التي تتجلى في العناية المفرطة بالخوض في تفاصيل سيرة المؤلف، وفي التعبير عن الآراء الذاتية للناقد المستمدة من ذائقته، وهذا مما يعلي من أهمية الأحكام التي تطلقها الذات الناقدة بخصوص النص المقروء، وفي الوقت نفسه يقلل من أهمية الخصائص الفنية للنص المنقود. وقد يحدث أن يغادر الناقد الانطباعي سجن الذات في النقد فيغدو أقرب إلى المداخل الحديثة في النقد الأدبي، كما حصل في بعض مقالات ودراسات عبد الجبار عباس مثلاً. وقد يحدث العكس، فيكتب ناقد حديث مقالة حافلة بكل خصائص النقد الانطباعي من دون الانتباه إلى الحدود المنهجية التي يلتزمها عادة في الكتابة النقدية.

 

• قلت لي ذات مرة في حوار سابق أن وضع النقد العراقي لا يبشر بخير. حدث ذلك قبل سنوات أود معرفة الأسباب الداعية لهذا التصريح.

 

هناك جملة من الأسباب الموضوعية لهذا الرأي، فكما تعرف، فإن الحكم على مستقبل المشهد النقدي لا ينفصل عن الحكم على مجمل العوامل المؤثرة في مستقبل الثقافة والإبداع في البلاد. وبما أنني لا أروم أن أجعل من آرائي فيصلاً في القضايا السياسية والاجتماعية الخلافية الكثيرة، فسأختصر وأقول: حين سقط النظام السابق، كان هناك أمل كبير في أن توفر أجواء الحرية المناخ المناسب لتطور النقد الأدبي، ولم يكن من المتوقع أن تثور عاصفة هوجاء تؤدي إلى تدمير الماضي كله، بسلبياته وإيجابياته، وتطيح بأسباب العيش المشترك بين العراقيين جميعاً، وتفتح الباب لكل من هب ودب لممارسة ما يزعم أنه كتابة نقدية. ومن هنا فإن ما لحق بالنقد الأدبي من تدهور في المستوى هو بعض مما حل بالبلاد من ويلات ومشكلات. ولعل المستقبل البعيد سيشهد تحولات إيجابية تؤذن بانتهاء المؤثرات السلبية السابقة والحالية التي أثرت عميقاً في المشهد النقدي العراقي.

 

• ترى ما النتاج الذي تعده ممثلاً لما تروم تحقيقه في مجال النقد الأدبي، ويمكن أن يكون أحد النماذج المختارة في أي أنطولوجيا للنقد العراقي الحديث؟

 

هذا سؤال مهم ودقيق. ولكنني أود التنبيه إلى أن رأيي قد لا يوافق آراء بعض ممن قرأ كتاباتي النقدية. وعلى أية حال. فإنني  أشير هنا إلى أهمية ما كتبته عن نجيب محفوظ تحت عنوان (جدل الشكل والمحتوى في رواية حديث الصباح والمساء)، وما كتبته عن قصص معينة للقاص الكبير محمد خضير، وعن روايات لطفية الدليمي وميسلون هادي، وعن شعر حميد سعيد وسامي مهدي وعلي جعفر العلاق. كما أشير بشكل خاص إلى أهمية ما كتبته في حقل (الميتانقد) أو ما يسميه البعض بنقد النقد.

 

• أنت تسحبنا لموضوع آخر فلنتحاور فيه، أرجو أن تتوسع في توضيح كلامك عن الميتانقد؟

من الناحية التاريخية، درج الباحثون والنقاد، العرب والأجانب، القدماء والمحدثون، على إلحاق الميتانقد، في الممارسة، بالنقد الأدبي، فلم يلتفت أحد إلى الخصائص التي تميز هذا الحقل المعرفي المهم عن النقد الأدبي وإلى حقل اشتغاله الخاص وإلى حدوده المعرفية والاصطلاحية، فألحق ذلك ضرراً بليغاً بتصوراتنا عنه. ولم تبدأ الجهود الأولى لإرساء الميتانقد على أسس رصينة وراسخة إلا منذ مدة زمنية وجيزة. وكانت البدايات الأولى للدكتور محمد الدغمومي من المغرب ولكاتب هذه السطور وللدكتورة سلوى الرياحي القسطنطيني. فقد كتب الدكتور محمد الدغمومي مقالة في مجلة (الأقلام) العراقية عما سماه نقد النقد، وأعقب ذلك بكتاب عن الموضوع نفسه، وهو كتاب مهم على الرغم من أن الكاتب لم يتجاوز حدود مقالته في مجلة الأقلام، ثم كانت المقالة التي كتبتها في مجلة (عالم الفكر) الكويتية عن (الميتانقد: محاولة في تأصيل المفهوم)، والتي جاءت تتويجاً لاهتمام متواصل بالموضوع والمعارك الأدبية في الأدبين العربي والأجنبي. وفيها انتقل الكلام من الحديث الخجول عن افتراق الميتانقد عن النقد الأدبي إلى مسعى علمي ومنهجي لتأصيل استقلال هذا الحقل عن النقد الأدبي، وفي العدد اللاحق من مجلة (عالم الفكر) الكويتية، جاءت دراسة الدكتورة القسطنطيني مكملة لهذا الجهد الريادي على المستويين العربي والعالمي في العمل على تطوير مفهوم الميتانقد لكونه حقلاً معرفياً مستقلاً من المادة والمنهج والمصطلح. وقد أعقب ذلك أن كتب الأخ الناقد رشيد هارون أطروحة دكتوراه عما يسميه نقد النقد، وكان موضوعها عن (ياسين النصير ناقداً). وكان لي دور أساس في توجيه الباحث نحو الاطلاع على المضامين المهمة الأولى للكتابات المنهجية وغير المنهجية في هذا الحقل. فجاءت أطروحته على غير ما اعتاد الباحثون الأكاديميون في الرؤية والمنهج والمصطلح والنتائج. وأعتقد أن أساليب الكتابة الأكاديمية عن النقاد ستختلف بعد هذه الأطروحة اختلافاً جذرياً.

 

• لقد قلت قبل قليل إن جهود د. محمد الدغمومي وجهودك وجهود د. سلوى الرياحي القسطنطيني في مجال الميتانقد كانت ريادية على مستوى النقد العربي ومستوى النقد في العالم. ألا تجد أن في هذا الرأي شيئاً من المبالغة؟

 

لا أتصور ثمة مبالغة، فقد اشتملت ممارسة النقاد العرب والأجانب على شيء مما يسمونه نقد النقد أو الميتانقد من دون أية تفرقة واضحة بين مفهوم النقد الأدبي ومفهوم الميتانقد. ولعل خير مثال على ذلك أن كتباً كان موضوعها من صميم الميتانقد، مثل كتاب الدكتور محمد مندور (النقد المنهجي عند العرب)، ومع ذلك فهي لم تتضمن أية إشارة إلى مصطلح نقد النقد أو رديفه مصطلح الميتانقد، كما صدرت عدة كتب تحت عنوان (نقد النقد) لم تكن تحتوي على أي مجهود فعلي لفحص مستويات الاشتغال واختلاف المصطلحات وللتفريق بين حقلين معرفيين مختلفين تماماً هما النقد الأدبي والميتانقد. وفي البلاد الأوروبية، صدر كتاب للناقد تودوروف عن (نقد النقد) قام بترجمته الدكتور سامي سويدان. وحين تقرأ هذا الكتاب بدقة تجد أن فكرة تودوروف عن الميتانقد لا تختلف عن فكرة النقاد العرب في شيء. ولو رجعنا إلى كتاب (النقد الأدبي ومدارسه الحديثة) للناقد الأمريكي ستانلي هايمن وبترجمة الدكتور إحسان عباس والدكتور محمد يوسف نجم، لوجدنا دليلاً إضافياً على عدم وجود تفرقة بين المصطلحين، وهو مما ينفي عن كلامي صفة المبالغة.

 

• أود أن تتحدث لنا عن أطروحتك الأكاديمية (روابط التماسك النصي في القصة القصيرة) التي عملت فيها تطبيقا على قصتين للكاتب الأمريكي إرنست همنجواي وقصتين للكاتبة البريطانية فرجينيا وولف. فما المنهج المتبع من قبلك؟ وما أهم النتائج النقدية التي توصلت إليها؟

 

هذا أمر يطول شرحه مما يوجب الاختصار. فالدراسة لغوية في الأصل، بمعنى أنها كتبت لنيل الدرجة العلمية في حقل اللسانيات  linguistics  وهي متخصصة بالأسلوبية اللسانية التي تختلف كثيراً عن الأسلوبية الأدبية التقليدية. وقد قامت الدراسة على فرضية محورية هي أن المقولة المعروفة “الأسلوب هو الرجل أو الإنسان” ليست صحيحة على الدوام لأن ما يؤثر، فعلياً، في تشكيل ملامح الأسلوب في كل نص أدبي ليس الكاتب نفسه بقدر ما هو الجنس الأدبي والتقنية المخصوصة التي ترتبط به. وقد استطاعت الدراسة أن تثبت صحة الفرضية من خلال إجراءات منهجية صارمة قائمة على أسس من إحصاءات دقيقة. وهذه النتيجة المهمة تقدم تفسيراً علمياً لظاهرة تنوع أساليب الشعراء والقصاصين من نص إلى آخر. وحين قرأ الأستاذ الناقد فاضل ثامر الأطروحة، وكان ذلك حين كنا في ليبيا منذ نحو خمسة عشر عاماً، اقترح عليَّ أن أترجمها للعربية لأهميتها. لكن الظروف لم تتح لي تحقيق هذا المقترح حتى الآن.

 

• قد يقول قائل: كان الأجدر بك أن لا تبتعد عن متابعة نقد القصة القصيرة العراقية وخاصة ما كتبه محمد خضير، محمود جنداري، لطفية الدليمي .. ألم تكن هده الأسماء هي الأكثر تأثيرا فيك لتلجأ للدخول للقصة الغربية.

 

ربما. لكنني أعتقد بأنني دخلت إلى حقل الدراسة العلمية الأكاديمية بعد زمن ليس بالقصير كنت فيه أحاور المعارف النقدية والنظريات من خلال ممارسة النقد الأدبي فعلياً وبمنهجية وإخلاص. وقد كتبت عن النصوص التي كانت تمثل تحدياً لقدراتي الشخصية في مجال النقد الأدبي.

 

•.يتساءل البعض عن أهمية كتابك (نقد مفهوم القانون في الخطاب التاريخي) في مجال ممارسة النقد؟

 

الجواب: لهذا الكتاب أهمية خاصة في حقل فلسفة التاريخ. فالكتاب يتصدى للنظريات التي تزعم وجود قوانين في الصيرورة التاريخية من خلال فحص مفهوم القانون في حقول ومعارف متعددة، مثل قوانين الألعاب الرياضية والقوانين التشريعية والقوانين الفيزيائية وغيرها. ومن خلال الفحص المنهجي لمصادر هذه القوانين المختلفة ولأهدافها وللغة التي صيغت بها، يتوصل البحث إلى حقيقة أن مفهوم القانون في الخطاب لا يتضمن أياً من شروط القوانين أو خصائصها أو لغتها. لذلك لا يمكن القول بوجود قوانين في التاريخ بقدر ما يمكن القول بوجود تصورات وتوقعات وسيناريوهات محتملة الوقوع لا أكثر. أما بخصوص صلة هذا الكتاب بجهودي في النقد فهي تأتي من كوني استخدمت العقل النقدي في حقل معرفي مهم هو التاريخ. وليس هذا بالمحرم على الناقد.

 

• لنتحدث عن أهمية النقد والنقاد العراقيين أمثال: عبد الله إبراهيم وسعيد الغانمي وحاتم الصكر، ويضاف لهم تجربتك منذ الثمانينيات حتى يومنا هذا في تعزيز النقدية العراقية قياساً لمنجز النقاد العرب.

أتصور أن سؤالك هذا ينطوي على مستويين: الأول تاريخي بوصف أن نتاجات النقاد العراقيين المذكورين في السؤال قد أسهمت إلى حد بعيد في تأسيس الملامح الفنية والفكرية للنقد العراقي في المرحلة المشار إليها، والثاني تقويمي لهذه النتاجات من حيث أنها تمثل قيمة منهجية وفنية وفكرية ذات أهمية خاصة، بهذه الدرجة أو تلك، عن المراحل السابقة بحيث يصح أن تعد إضافات نوعية في النقد العراقي والحقيقة أن ما قدمه هؤلاء النقاد، و أيضاً ما قدمه نقاد آخرون غيرهم لم ترد أسماؤهم في السؤال، يمثل إضافات نوعية مهمة على المستويين أعلاه فضلاً عن أنها جهود قد أسهمت في نقل النقد العراقي من مرحلة التصورات الفنية الجزئية إلى مرحلة الفكر النقدي الشامل والمؤسس على أبعاد فنية وفكرية وفلسفية متكاملة. لذلك يمكن القول إن النقد العراقي قد امتلك حضوراً ثقافياً مؤثراً وفاعلاً على الساحة النقدية العربية بعد الثمانينيات. وأعتقد بأن الأسماء المؤثرة في صوغ مستقبل النقد العراقي تتسع باستمرار، فهناك أسماء مهمة جديدة ظهرت في سماء النقد العراقي.

• ترى هل يشمل كلامك هذا كل من كتب في النقد الأدبي، وفي حقول نقد الشعر والقصة والرواية والمسرح والنقد الفني؟

الجواب كلا بالطبع. فالنقاد العراقيون المميزون هم من جمعوا بين البعد الفكري والفني والجمالي، وصاغوا ذلك في نصوص نقدية تعبر عن جهد منهجي وعن رؤية فلسفية للتجربة الأدبية والفنية وعن مكانة هذه التجربة في مجمل التجربة الوجودية للإنسان من جهة، وعلاقة كل ذلك بالصيرورة التاريخية والاجتماعية من جهة أخرى. وهكذا ترى أن من ينطبق عليهم مثل هذا الوصف قلة قليلة. سواء أكانوا ممن يكتبون النقد داخل الحقل الأكاديمي في الجامعة أم ممن يكتبون في المجلات الأدبية المتخصصة خارج الجامعة.


• أود معرفة ما يتصوره الآخرون عن المنجز النقدي العراقي، وأنا أعلم مدى علاقاتك بالنقاد العرب وأهميتهم عندك، فكيف ينظر هؤلاء النقاد للتجربة النقدية العراقية؟

من الصعب حصر آراء النقاد العرب بخصوص النقد الأدبي العراقي في مثل هذه المساحة الضيقة. ولكن المتابعين للدراسات النقدية في حقول الشعر والقصة والمسرح يلاحظون أن دراسات النقاد العراقيين وإسهاماتهم في تطوير العملية النقدية في الجانبين النظري والتطبيقي كانت مهمة وأساسية ومؤثرة في صوغ التصورات النقدية في بعض النتاجات النقدية العربية. وأشير هنا، على وجه الخصوص، إلى دراسات حاتم الصكر وعبد الله إبراهيم وسعيد الغانمي وفاضل ثامر وياسين النصير، وآخرين، وتكفي مراجعة مدققة للدراسات النقدية الأكاديمية في الكشف عن التأثير الذي مارسه النقد الأدبي العراقي في النقد الأدبي العربي. أما مراجعة الكتابات النقدية العربية خارج نطاق الجامعات، فهي تكشف عن تأثير لا يقل أهمية عن التأثير في حقل الدراسات الأكاديمية. ومن مظاهر هذا التأثير، أن جهود هؤلاء النقاد وزملائهم الآخرين قد كانت موضع درس أكاديمي في الماجستير والدكتوراه. وعلى أية حال فإن حجم تأثير النقد الأدبي العراقي ما زال دون ما هو مؤهل له لأن الحاضنة الثقافية العربية تتأثر بالسياقات السياسية والاجتماعية الحالية، وما دامت البلاد في وضع سياسي مضطرب وغير مستقر، فإن النقد العراقي سيظل يعمل في بيئة ثقافية عربية غير ودية إن لم تكن معادية.


• ألا تتفق معي أن أهمية النقد العراقي كانت أكثر فاعلية بعد الثمانينيات من القرن المنصرم خاصة بعد أن هضم أغلب النقاد العراقيين المناهج الحداثية مثل المنهج البنيوي والمنهج التفكيكي والمنهج السيميائي؟

 

هذا مؤكد إذ ترتبط المناهج التي ذكرتها في سؤالك هذا بالتطور الثقافي والفكري والفلسفي في الغرب، وبجهود أسماء لمفكرين كبار مثل فرديناند دي سوسور، وكلود ليفي شتراوس  وجورج لوكاتش ورولان بارت وجاك دريدا وشارلس ساندرز بيرس وسواهم كثير. وكانت جهود هؤلاء المفكرين ذات أهمية كبرى في التأسيس لتيارات واتجاهات نقدية لها أبعادها الفلسفية من جهة ولها تجلياتها الإبداعية من جهة أخرى. ولو عدنا لواقع النقد الأدبي العراقي، فإننا سنجد أن من الصعب أن نجد سياقاً ثقافياً وحضارياً مماثلاً يسمح بظهور مفكرين عمالقة أمثال الذين ذكرتهم قبل قليل. ولكن وفي الوقت نفسه فإن من المحال حجب المؤثرات الحضارية الآتية من الآخر من التأثير في النقد الأدبي في العراق أو في سواه من البلاد العربية أو في بلدان العالم الثالث. وهكذا ترى أن تمكن النقاد العراقيين من التمثل العميق للاتجاهات النقدية الحديثة ولأبعادها الفكرية والفلسفية والجمالية ولطرائق الاستثمار العميق والفعال لها في تحليل النص الأدبي، العراقي خصوصاً أو العربي عموماً، كان هو العامل المهم في نجاح بعض النقاد في الارتقاء بالممارسة النقدية إلى مستوى محاورة الآخر ثقافياً، وفي فشل البعض الآخر في مثل هذه المهمة الصعبة. وهنا أود القول إن النظريات النقدية والفكرية والجمالية قليلة العدد، وهي تتعلق بالكليات التي يشترك فيها البشر كافة. لذلك فلا ضير من الاستفادة المتبصرة من هذه النظريات. وأيضاً أرجو الانتباه إلى أن التطبيق الخلاق للنظريات النقدية على النصوص الأدبية العربية هو المساحة الأهم التي يمكن للنقاد العرب أن ينهضوا فيها بمهمة إظهار فاعلية هذه النظريات وما تنطوي عليه من قدرة على إضاءة الجوانب البعيدة من تلك الأعمال الأدبية العربية. وعلى أي حال فإنني أوافقك الرأي في ما يخص الفرضية التي انطلقت منها في سؤالك هذا. والحقيقة أن هذا الرأي الإيجابي بخصوص أهمية جهود النقاد الثمانينيين في استثمار المناهج الحداثية لا يغبن حق النقاد العراقيين السابقين، مثل جهود نهاد التكرلي وعبد الجبار عباس وفاضل ثامر وياسين النصير وعبد الرحمن طهمازي ومحسن أطيمش، أو جهود النقاد اللاحقين الذين ذكرت بعضاً منهم في جواب سابق. فإن لكل جهد نقدي أثره الذي لا يمكن لأحد أن يصادره. ولكنني أتحدث عن أثر هذه الجهود أو تلك في الصيرورة التاريخية في هذه التحولات التي شهدها النقد الأدبي في العراق وفي البلاد العربية. وحين نتحول عن التصور أو النظرة السكونية للحركة النقدية فإننا سنفهم ما جرى ويجري بوصفه جزءاً من حركية الفكر والإبداع على مدى التاريخ.