أنماط السرد وموضوعاته في باب المنفى الكبير

ثقافة 2023/05/31
...

رنا صباح خليل 


يعرض لنا القاصّ هيثم الطيب في مجموعته القصصيَّة (باب المنفى الكبير) قضايا إنسانيَّة قديمة ومعاصرة ويغوص بنا في مكنونات النفس البشريَّة حتى العمق فهو يفلسف الحدث ويتدخل في تفاصيله ويُخرجه لنا بأسلوب متقن فيه جمال ودقة، وسياق فيه قوة الإقناع وكذلك دلائل فيها صيغة قصصيَّة يستسيغها الإنسان كما يستسيغ شراباً لذيذاً، رغم أنَّ هذه القصص بمجملها تحمل ملامحَ رؤيويَّة مجزّأة إلى وحدات تشكل كلّ وحدة منها قصة لها كيانها الخاص، لكنَّ الكاتب مثّل فيها وظيفتين في البنية القصصيَّة، فتارةً يقصّ ما حدث وما يحدث فيهما من أحداث، وتارةً أخرى يعلق على الحدث دون أن يُسهم في صنعه وبذلك كان القاص يؤدي دوراً مزدوجاً في السرد القصصي، ويتأتى هذا عبر ضفاف اللغة الوصفيَّة التي تمكّن منها بشكل لافت نستطيع أن نلاحظه من خلال طرحه القضايا الشائكة والتساؤلات التي لن تجد لها إجابات وافية فتظل مطروحة على قارعة القصّ بانتظار التفكر والمناقشة. ونلاحظ أيضاً التنقل المفاجئ بين الأحداث التي تشكل عنصراً أساسياً عند المؤلف والذي يبعث في قصصه الحركة والنشاط، كما أنه برع في تحريك شخوصه بانسيابيَّة ومرونة فائقة ترتفع بنا إلى بنية فنيَّة محكمة ومغايرة.

 بالإضافة إلى ذلك هو يستخدم لغة مطواعة قويَّة حافلة بالتعابير والمواقف سواء اجتماعياً أو نفسياً فالشخصيات تجاوزت نمطيتها قصصياً ولو تأملنا شخصيات أغلب قصص المجموعة القصصيَّة لوجدنا أنفسنا أمام العديد من النماذج البشريَّة، التي تعبِّر عن الواقع المعاش. وهي نماذج من أجيال شتى، تمثل القديم والجديد في آن واحد قام القاص بتركيبها بطريقة لا تُشعر القارئ أنها شخوص مصطنعة سردياً، فقد جاءت نماذج تحب وتكره، تقوى وتضعف كأي شخصيَّة من لحم ودم، لكنها تتمايز بأسلوب عرضها كتابياً أي أنَّ السارد كان مطلعاً على كل شيء حتى الأفكار السريَّة للشخصيات وهو يتتبع مصير كلِّ شخصيَّة فعرفنا عن طريقه ما فعلته أو عرفته وما تحدثت به هذه الشخصيَّة.

في هذه المجموعة القصصيَّة نجد أنَّ القاص حرص على “ثلاث بنيات أو ثلاثة أنواع بنيويَّة أساسيَّة في قصصه التي تُعنى بالشخصيَّة وخط سيرها وهي: 

ـ أولاً: (الوظائف) ونعني بها الوحدات التي بتنظيمها في شكل مقاطع تُتيح للقصة أن تتطور. 

ـ ثانياً: (الأحداث) وهي الشخصيات التي تعرف بمجال فاعليتها. 

ـ ثالثاً: (الحكي) وهو المستوى الأعلى حيث يتشكل التشفير المزدوج بين الراوي والقارئ”(1)، والقصص التي تناولت هذا الجانب هي (ذكرى حزينة، صيف ساخن، أحداث كاذبة ومريرة، أرواح مصبوغة بالحناء، أبو حدبة، الجنرال الحزين، عازف الكمان الأخرس، المواطن يعود من الحرب، الحياة وسحرها). وبما أنَّ السارد الموضوعي هو اللاعب الرئيس في كينونة السرد ذلك أنه هنا هو المحرك الأساس للشخصيات والراسم للأحداث التي لا يمكن أن تكون إلا بوجوده وبوجود الشخصيات كان لزاماً أن يكون هو الموجه لتلك الشخصيات والحامل الأمثل لإرهاصاتها وهو في قصصنا هذه أخذ أيضاً دور الواصف لحال كلِّ شخصيَّة بطريقة مشهديَّة فلا تتوافر في قصصه إشارات تنامي الحبكة وصولاً إلى ذروة الصراع ثم العقدة فالحل ومثل ذلك ما جاء في قصة (ذكرى حزينة) إذ قام بعرض شخصية (سوادي كاظم) وهو الشخصيَّة الوحيدة والمحوريَّة في القصة كمن يقدمه لنا ويعرفنا عليه وعلى طريقة حياته ومن ثم موته وكيفيَّة حزن أهل القرية عليه بأسلوب الوصف الموضوعي الذي قدم لنا لوناً من ألوان التصوير، إذ إنه أسلوب إنشائي يقدم المظاهر الحسيَّة للأشياء”(2)، وكذلك الأمر في قصة (صيف ساخن) التي يتناول فيها القاص شخصيَّة مغايرة ويصف حيواتها ما بين الصيف والشتاء لرجل في الخمسين من عمره ليأتي المشهد منسجماً تمام الانسجام مع العلم الكلي للسارد العليم، ومع الوصف التصويري السردي، لأنه يقدم مظهراً روحياً مهماً اشترك مع المكان الموضوعي وكان لزاماً أن يقترن بزمان وهو هنا الصيف اللاهب في الشرق الذي تقع فيه مدينته، وفي تنقلات القاص ما بين مدن قصصه لم تكن تغفله ثيمة مهمة لاشتغاله وهي مرتبطة بفعل الحرب في أغلب قصصه فالحرب هي المنفى الكبير وما تداعيات القص عند الكاتب إلا بابه الذي تفتحه هذه القصص وهذا ما تؤكده قصة (أحداث كاذبة ومريرة) أيضا التي يستثمرها في ما طرحناه من مفاهيم لإنتاج شخصيَّة تحمل تصنيفات متعددة للإنسان الخاسر، وللشاب الذي فقد حبيبته وللمسن الذي مات من الملل، وهذه الشخصيات بمجملها لم تخرج من إطار سعيها نحو فنائها المحتوم لتأخذ أشكالاً للحلم المباد ففي قصة (أرواح مصبوغة بالحناء) تمثل الحلم فيها برغبة القروي في الوصول إلى بغداد التي لم تتحقق وفي قصة (أبو حدبة) تُسلم الشخصيَّة مآلات تركيبها إلى شخصيَّة مهزومة فاقدة الثقة بنفسها وبما حولها، أما في قصة (الجنرال الحزين) فقد جاءت الرحلة نحو الفناء وهي تسير بسلاسة وأريحيَّة في ثقافة النص التي تحاكي تكوين الإنسان الحالم عندما يستشعر حزنه وألمه وهذا الإنسان هو نفسه الذي جاء بشخصيَّة تبحث عن تحقيق الذات لعازف الكمان الذي لا يلاقي الاحترام والتقدير في بلده لتحترق أحلامه وتصبح كالرماد في قصة (عازف الكمان الأخرس) وهو الحالم الخائب نفسه في قصة (المواطن يعود من الحرب) وهو نفسه أيضاً تجسده شخصيَّة الفتاة الرافضة للزواج والباحثة عن أحلامها في مقارناتها وتطلعاتها وهي تصف حيوات الغير.

 استطاع القاص أن يُحمّل قصصه طاقات سرديَّة تكثف من موضوعات قصه حتى لكأنه أراد أن يزجَّ كلَّ ما لديه من أفكار ومن لقطات تحمل مغزى في هذه الحياة كي يجعل منها عجينة سهلة التركيب ينشئ منها قصة قد تتناول الغرائبيَّة كما في قصصه (عين واحدة تكفي، فاغر قلبي، البنت المشؤومة، ظهور التنين في بيت أم فاتن) أو تـتـحدث عن العلاقة بين الرجـل والمرأة في كنـف الـزوجيَّة والـحبِّ كـما في قـصصه (أليخاندرو وأماندا، باب المنفى، شجرة لكلِّ عام، ليلة اختفاء فطيم) أو تحمل موضوعات متفرقة تحاكي همَّه الفلسفي ونظرته التي تؤرِّقه وهو يرى ما لا يراه الناس في أقصوصات تبدو عاديَّة لمن لا يخبر أبعاد القاص التي قد تكمن في التقاطاته الذكيَّة الصغيرة والواعية في ما ورد في قصص (الساعات والمرايا، النهار الأخير في هذا الخريف، باب المنفى، حياة لا تحكمها الغرائز، سرقة مبنى البلدية، كوفيد- 19، الأزمات في هذه البلاد) وهذه الأنماط من القصص اتبع فيها القاص أسلوباً هو ليس وليد الترابط السببي بين الأحداث فحسب بل هو مستنبت من رحم البداية كذلك، وهو دائماً ما يحمل روحاً استعاريَّة قد تسكن المكان أو تنزاح نحو هوّة سحيقة للزمان وما يفعله في تقلباته التي تحتاج إلى إسهاب وإطالة لإيضاحها لو تناولها قاص آخر ولكنها عند هيثم الطيب أخذت مساحات صغيرة تنطوي على إشارات خفيَّة ترسم المصائر والنهايات التي تحفظ للسرد أسراره وتبعث باطمئنان القارئ وهو يستشعر لعبة المراوغة عند القراءة، ذلك أنَّ القاص دائماً ما يترك الباب موارباً في تمثيل سردي مشحون بطاقة عاطفيَّة هائلة ضمت أعمق المعاني، وأشد المواقف حرجاً، وشخصت خراباً، ونادمت حيرة، ووصفت حزناً، وقد اشتغلت فيها اللغة المكثفة وهي مستعينة بالفعل الماضي الذي كان يتسيّد فيها لحظات فائتة تسهم في إقناع المتلقي أنَّ الأمر صار واقعاً وله دلالاته النصيَّة في تزامنها مع صيغ الفعل المضارع وطغيانه على ما عداه من الأفعال الأخرى وبما يشير إلى حضور اللحظة الآنيَّة المنسابة عبر تكثيف الإحساس بحركة الزمن الراهن المتداخلة مع الماضي وهي هنا لا تنضبط لتتابع أحداث معتاد وإن كانت تتوسله في بعض الأحيان، ولكنها لا تفتأ أن تحوره حين تُسكن الحدث الخارق في رحم الحدث شبه المرجعي، حتى لكأنه جزء منه لا ينفصل عنه، بل إنها تتقن أساليب الإيهام الفني، وهي تصنع من المألوف شذوذاً فكانت الأمومة تمثل وظيفة لا أكثر كما في قصة (حياة لا تحكمها الغرائز) فيخلق منطقها الخاص الذي من خلاله مرّر القاص تداعيات ومخاوف وحياة جامدة وكما جاء في قصة (النهار الأخير في هذا الخريف) وشبّه المدينة بامرأة وهو يوازي ما بين الحب والموت في توليفة تناصر الاستمرار والعيش في قصة (باب المنفى) واستطاع القاص أيضاً أن يشخّص عادات دخيلة على المجتمع في قصة ( شجرة لكلِّ عام) ووظف الجنس بطريقة جديدة يُدين فيها المناصب الزائفة التي يجلبها النفاق لأصحابها في استعارة لمفهوم لعق الكراسي بأسلوب ايروسي له خصوصيته كما في قصة (سرقة مبنى البلدية) .

هناك تورية في هذه القصص تراهن على ارتباط الكوارث بالخرافة وقصص تنهش فيها الهزيمة لشخصياتها فتؤدي بها إلى الانتحار أو الاستسلام في انتظار الموت وغير ذلك من اهتمام في القص يتحدد بصيغ التطور التكنولوجي وآثاره في ممكنات العيش بسلام ونبذ الزيف والخداع وضياع العمر وتداعيات الدقائق التي تمر من دون أن يفهم الإنسان من حياته شيئاً. وفي نهاية حديثنا عن مجموعة هيثم الطيب (باب المنفى الكبير) لا شك أننا نلمس متغيرات على مستوى اللغة والوظيفة والرؤية والأداة، وهو تغير يمثل درجة من التطور الفني التقني في عالم القصة القصيرة، فنصوص القاص بمختلف طروحاتها واتجاهاتها تكثيف للواقع لا تحليل له وهو تكثيف قابل للتفجير والانشطار والتفسير المتجدد، وله القدرة على البث المتواصل للمعاني والمشاعر بظلالها وإيحاءاتها.


 الهوامش: 

1 ـ الأدب عند رولان بارت، فانسان جوف، تر: عبد الرحمن بو علي، دار الحوار، سوريا، اللاذقية، ط1، 2004، ص32. 

2 ـ بناء الرواية، د. سفر أحمد قاسم، الهيأة المصريَّة العامة للكتاب، القاهرة، 1984، ص79.