تمرد الغوليم بين الحقيقة والخيال

ثقافة 2023/05/31
...

جينا سلطان

    حين بلبل الله الألسنة توارت مصفوفة الأحرف الناظمة لإسفار الكون الأوسع داخل الأضيق في برج الكلمات، وتشتت الإدراك لدى المتأخرين بين الأعلى والأسفل. وبعد أن عاينت الأنفس تكامل العالمين الداخلي والخارجي، المتجسد في رمزية المثلثين المتداخلين (نجمة عشتار) أصبحت الحكمة القائمة على تكامل العالمين مدخلا لعتبة الإدراك؛ “اعرف نفسك، تعرف ربك”. وتمثلت المحاولة الإنسانية المبكرة لتجميع الشتات الذهني الفردي والجمعي بتأمل المغزى الكامن في هيكل الطين المسمى بالغوليم .

    وبحسب القبالة يمثل الغوليم  كائنا غير متشكل بلا ملامح، لمح مشهد تاريخ الخلق الذي مر أمامه على شكل صور متلاحقة، عكست الكون البدئي الضخم للأسطورة الكونية، فتركزت قوة العالم بأسره فيه. وينسب التبصر في القوة الخلاقة للعناصر اللغوية إلى أبي الأنبياء إبراهيم الخليل الذي “تفكر، وتأمل، ونظر، وحقق، وفهم، وأوجز، وحفر، وركب، وشكل (أي خلق)، ونجح. ثم كشف رب العالم نفسه له” . لكن محاكاة خلق الغوليم ظلت شرطية مرتبطة بثنائية المعلم والمريد، منعا من تعاظم التفرد والغرور داخل المتعلم والباحث عن التكامل المعرفي، لتتحول إلى غاية في ذاتها، باعتبارها “طقساً من التلقين داخل سر الخلق” .. ويستطيع العارف المتيقن إنشاء غوليم عبر قوة الكلمة، التي يلقيها على الكائن المجبول بالطين، فيتلقى روح الحيوان بقوة كلمته، لكنه لن يستطيع منحه روحا حقيقية.

    تلك المقدمة تقودنا إلى متواليات الرعب والخوف لدى الحشود المفكرة والساذجة على حد سواء من تعاظم سطوة الذكاء الصنعي الذي يمكن عده نمطا متأخراً من الغوليم. وهو ما يستدعي إعادة التساؤلات عن ماهية أبعاد الفعل الإنساني، وإلى أي عمق تتوغل، وما هو حيز الوجود الذي تمثله. وهل تهدد “الببغاوات الخوارزمية” مستقبل النوع البشري، وما هو المدى الذي يمكنها قطعه لبناء وعي خاص بها، وكيف عكس الأدب الروائي تعامل الذات المبدعة مع خطر الانقراض المتجسد بطغيان المحاكمات العقلية القائمة على التجريد الذهني البحت، والمفتقرة إلى الحكمة والحدس. فيما لو أخذنا بعين الاعتبار البنية الإنسانية المحكومة بالثنائيات المتضادة، وبالتالي حتمية توازن الجانبين الذكري القائم على التجريد والأنثوي القائم على الحدس، عند كل كائن بشري.

    في الآداب التلمودية تعتبر السكينة أو الشخيناه أحد ظهورات الرب في العالم، ويعادل وقعها في النفس توهج المعرفة في قلوب الساعين نحو بلوغ منتهى الحكمة، إذ توافق انسحاب المادة وإشراق الفكر. وهو ما تختزله رمزية المثلثين المتداخلين في الفكر الهرمسي، والتي تعود أصلا إلى نجمة عشتار السداسية، ومن بعدها عرفت بـ”خاتم سليمان”، وتعني كما في الأسفل كما في الأعلى. ولأن تقاطع المثلثين يشكل مربع العناصر في الفلسفة الفيثاغورثية أي رقعة التجربة البشرية القائمة على المعاناة لأجل الخلاص، تحتم على أبطال رواية اللوح الأزرق  لعب دور الفرسان الأربعة، والارتحال في أرجاء إسبانيا إبان محاكم التفتيش، التي تجسد ثالوث الجهل والتعصب وإلغاء التفكير الحر، بحثا عن حقيقة مخفية بين طيات كتاب ـ لوح، فتشبه من حيث المبدأ رحلة بالداسار  بحثا عن كتاب المازندراني والاسم المئة للخالق.

    تؤطرُ الرواية بتساؤل عن مبتدأ اللامعقول، الذي يجعل رحلة الإنسان من أجل المعرفة أكثر عبئا من الحياة يوما بيوم، ونهايته. وتتوزع بين حكيم يهودي عجوز ومفكر مسلم كهل وراهب مسيحي شاب، يجتازون ثمانية محطات، يلتقطون عبرها مثلثات برونزية، يحقق تجميعها رؤية شمولية في سياق إسفار عن المعنى المقدس. ففي إحداها يبرز الهدهد كوسيط بين المعلوم والمجهول، وفي أخرى تقود عتمة المغارة/النفس إلى كهف الظلال الأفلاطوني. أما اللوح الأزرق الذي يعادل اللوح الإلكتروني (التابليت)، وبالتالي نوعا من الذكاء الصنعي، فيلعب دور مرآة كونية تظهر دخيلة الرائي، وتعكس جانب الحقيقة الذي يعرفه، ليعاين الرجال الثلاثة نفس الحقيقة، وفقاً لتوجههم الديني. لذلك يستدير سينويه حول نصه ويؤطره بكلمات الشاعر الفارسي عمر الخيام، الذي أراد الذهاب إلى ما وراء العرش وإلى ما فوق السماوات بحثا عن اللوح والقلم وعن الجنة والجحيم، ليدرك أنها جميعا موجودة في داخله.

    وكي لا يجد نفسه في مواجهة معادلة تفتقد المعنى، يمنح سينويه للأنثى التي بقيت على الهامش في الرواية السابقة مهمة تحريك الأحداث في “صمت الآلهة” ، فتكتب كلاريسا مشهدا لجريمة، تكتسب بعداً واقعيا بعد بضع ساعات، لتتوالى الاغتيالات ضمن سياق حبكة بوليسية، يناقش عبرها القتل بوصفه إلغاء الآخر. ويوسع نطاق القتل ليشمل تصفية الملائكة، لتحدي ذهن كلاريسا بوصفه نموذجاً للمآل الذي يبلغه عقل بشري في استنباط النتائج بناء على معطيات الأحداث، وبالتالي خلق مشهد مزدوج، يحاكي تجربة قط شرودنغر، فيغرق القارئ في تقصي احتمالات الحقائق، ويعيد طرح علاقة الإنسان بالآلهة والطواطم. 

    لكن العقل التجريدي الذي يجسد آلية عمل الذكاء الصنعي، سرعان ما يسقط في فخ الغرور، فيحتاج إلى الحدس لملء الثغرات التي يخلفها المنطق، إضافة إلى حاجته لشيء من الرعب والخوف كي يبلغ الحقيقة. وكترجمة لهذا المفهوم يستعير المؤلف لإحدى الشخصيات الثانوية (كبير الملائكة) ثوبَ إدريس (كثير الدرس)، ثم يضعه أمام امتحان أيوب، قبل أن يلغي دوره. ثم يستخدم النسبة الإلهية فاي ليرمز إلى ثنائية الخير والشر لأن الهندسية الإقليدية للكون محكومة بهذه النسبة، فلكل شيء نقيضه في عالم النسبية والسببية. ولحل هذا التشظي يُسقط سينويه البطل في فخ الفعل أحب (المسيحاني)، فيصطدم جداله الفكري بعائق التقسيم إلى خير وشر، ويتوهم إمكانية إلغاء الشر لبلوغ الحلم الأفلاطوني؛ اليوتوبيا.   

    وفي هذا الصدد من المفيد استعادة كلام شمس التبريزي بلسان السومري : “من هو إبليس؟ فأجبته: “هو أنت، لأننا في هذه اللحظة غارقون في إدريس، إن لم تكن إبليس، فلماذا لا تغرق أنت أيضا في إدريس؟ وإن كانت لديك بعض علامات إدريس، فلماذا هذا القلق من إبليس؟ لو قلتَ: “من هو جبريل؟، لقلتُ: “هو أنت””.. وتلك المحاكاة النفسية التي تصنع بطلا تراجيديا أسطوريا تشكل رداً على تحدي الذكاء الصنعي، الذي يتخبط في متاهة الفراغ، عند حدي إدريس وأيوب، لافتقار الآلة (الروبوت) إلى الحكمة والتبصر المتأتي عن المعاناة التي تحكم الشرطية الإنسانية.

    في الليل، وبينما يحلم البشر بالسرعة والشباب والفرصة، يدرك آينشتاين  ببطء في عالم السرعة الكبيرة، إحدى الحقائق الكونية الأهم؛ ماهية الزمن. ومن خلال إعادة فهم الزمن يحاول الاقتراب، كفنان، عبر الحدس والخيال، من الواحد القديم، فيحالفه النجاح أكثر مما عمل بدأب لأجله طوال حياته كعالم فيزياء. 

    آمن آينشتاين بإله سبينوزا الذي يتجلى في النظام المتناغم لما هو موجود؛ إله يكشف نفسه من خلال هذا الكون. وبالتالي، تشكل رواية المعادلة الإلهية  رحلة بحث علمي عن إله سبينوزا، تعتمد مبدأ الحوار بين الحكمة الشرقية والعلم الغربي، بحيث تتطابق الآية التوراتية “فليكن نور” مع دوران الكون وعودته إلى نقطة الصفر في التاريخ الهندوسي، الذي يسمى ليل ونهار براهما. وتطرح تساؤلات عن الغاية من تطور الذكاء البشري، وإلى أين ينتهي مستقبل الذكاء الصناعي، ولماذا يفترض به أن يصبح الخازن لبذرة الوعي عقب زوال الأنواع البيولوجية القائمة على الكربون.

    يشير أستاذ الرياضيات في الرواية إلى مبتدأ المتوالية المتسلسلة للحياة، والتي تتشكل وفقا لبنية من المعلومات، فتصبح الكائنات الحية نتاج تعقيد مذهل للأنظمة غير العضوية. ومثلما نتجت الحياة عن مسلسل تعقيد للمادة الجامدة، نتج الوعي عن مسلسل تعقيد الحياة، وبالتالي يعكس تعقيد التنظيم السؤال الجوهري، وليس المادة. ووفق لذلك تعتبر الحواسيب مخلوقات طبيعية، لكونها من خلق كائن طبيعي (الإنسان)، ولا يوجد شيء يشير إلى أنها بعد مئة عام لن تتمتع بذكاء يعادل ذكاء الإنسان إن لم يفوقه، وبالتالي ستطور شعورا وأحاسيس وستصبح واعية. لأن الأحاسيس والوعي ينتجان عن بلوغ درجة معينة من الذكاء الذي يجسد أسمى أشكال التعقيد. وبينما يتطور الكون من نظام كامل نحو فوضى شاملة، تبقى المادة ذات الأنتروبيا   الضعيفة دائما في نشأة مستمرة. وبدل أن تظهر المادة كاملة انطلاقا من تمدد أولي، قد تظهر تدريجيا عبر انفجارات صغيرة تحدث على مر الزمن، فتعوض ذلك القسط من المادة الذي يموت عندما يبلغ أقصى حد من الأنتروبيا.

    ولأن الطاقة تركزت في البداية بنقطة واحدة، ثم تمددت في انفجار هائل (البيغ بانغ)، فظهرت المادة من تحول الطاقة، تصبح الطاقة والمادة وجهان لعملة واحدة. وباعتبار أن ثمانية وتسعين  بالمئة من المادة الموجودة اليوم تشكلت انطلاقا من انفجارات البيغ بانغ فإن كل الذرات الموجودة في جسمنا قد مرت من عدة نجوم وشغلت آلاف الكائنات المختلفة قبل أن تصل إلينا. وكل واحد منا يملك على الأقل مليون ذرة سبق أن تواجدت لدى أشخاص آخرين عاشوا قبل مدة طويلة جدا.

    يسقط سانتوس هذا المفهوم العلمي  كثافة روحانية عالية، فيعاين طوماس في التيبت الصفاء، ويستذكر مع الراهب واقعة استيقاظ بوذا من حلم الحياة، بعد أن لاحظ أن الشرط الإنساني معاناة. وتتأتى هذه المعاناة عن التشبث بأوهام الحواس، التي تزرع في النفوس عقيدة التفرد، بخلاف الواقع الذي يؤكد أن البشر جزء من كلٍّ لا يتجزأ. لذلك يشكل فهم شيء ما بشكل تام إحاطة بكل شيء، وبالتالي إدراك ماهية المعادلة الإلهية يعادل فهم كل شيء..