الأيام الأخيرة

ثقافة 2023/05/31
...

ساياكا موراتا

ترجمة: جودت جالي

فكرت بأن الوقت قد حان، وقررت أن أمضي بالتحضيرات. اتصلت أولا بالعمال للتخلص من كل أمتعتي.

سألني شاب –” هل تخططين لموتك؟”، فأجبته –” أجل، إما غدا أو بعد غد”. قال –” أحقا؟ نفكر أنا وصديقتي  أن نموت معا الشهر المقبل أو نحو ذلك”. يختار العديد من الأزواج في العشرينيات أو الثلاثينيات من أعمارهم الموت معا. قلت تلقائيا –” كم هو شيء لطيف”.

-” هل يمكنني أن أسأل أي مكان في بالك؟ أتصور ديزني لاند، أم مرج من الزهور؟”

-” كلا، في بالي موت طبيعي أكثر”.

-” أوه، واو، لطيف. موت طبيعي. ذلك هو ما فعلته شقيقتي أيضا”.

استمر الشبان يثرثرون بمرح وهم يعملون إلى أن لم يبق شيء في شقتي.

-” حسن، لقد أكملنا عملنا. نتمنى لك موتا طيبا”. حملت حقيبة الظهر خاصتي، وهي الشيء الوحيد الذي بقي في المكان الفارغ، وخرجت.

لقد مرت مئة سنة تقريبا منذ أن بلغ الطب درجة من التقدم بحيث لم يعد يموت أحد، ولا حتى يشيخ، وحتى لو مت بحادث أو قتلك أحدهم، فإن التكنولوجيا متطورة بحيث يمكن أن يعاد إحياؤك، ولقد خشي الناس أن يحصل انفجار سكاني ولكن مما يبعث على الدهشة أن هذا لم يحدث، وكما كان الأمر دائما ما إن نفكر بأننا مستعدون للموت يمكننا أن نقوم به بأية طريقة تعجبنا. إن المكتبات مليئة بمجلدات حول طرق الموت: (مثالي بالنسبة للنساء! مئة طريقة ذكية للموت)، (مت كرجل! كيف تترك انطباعا في الموت)، (طرق الموت العشر المثلى للعشاق، مزين بالصور!). أنا شخصيا اخترت عنوانا (مت بشكل طبيعي! ميتات مثلى للبالغين وأفضل الأماكن للموت فيها).

الوقت المناسب يختلف باختلاف الناس. يوجد من بلغ مئتي سنة من العمر ونوى أن يستمر في العيش، بينما بعض الأطفال ماتوا بينما هم في سن العاشرة. أنا في السادسة والثلاثين من عمري الآن ولا أدري إن كان هذا مبكرا أو متأخرا، غير أني على نحو ما بدأت أشعر بأن الوقت حان. ربما كان حسي الباطني محقا، والواقع أن موتي لن يغير شيئا فعدد السكان باق مستقرا عند العدد الصحيح من دون زيادة أو نقصان.

بعد تصفح سريع للكتاب والحصول على فكرة جيدة جدا عما أردته ذهبت إلى بلدية المدينة وقدمت طلبا بعدم إعادة الإحياء لأضمن أنه، حتى لو تم العثور على جثتي، لن تتخذ إجراءات لإحيائي. ما إن كتبت الطلب تعاملت مع الأمور العملية مثل ماذا أفعل بشأن الادخارات القليلة لدي، والحصول على الترخيص بموتي. كانت الشكليات أكثر تعقيدا وبانتهائي منها وخروجي كان الظلام قد حل.

قدمت الترخيص بموتي إلى الصيدلية وطلبت عقارا قويا سريع المفعول نسبيا لكي لا أعاني. قالت لي الصيدلانية الشابة وهي ترمي لي في الكيس بعض أقراص الفيتامينات من دون مقابل –” اعتني أنت بنفسك الآن. إحصلي على موت جيد!”.

ركبت القطار الليلي وتوجهت مباشرة إلى المكان الموصوف في الكتاب. كان مكانا هادئا في أعماق الجبال. كان في الشتاء منتجعا مزدحما للتزلج، ولكن الناس الوحيدين الذين يأتون إلى هنا في هذا الفصل هم الراغبون في أن يموتوا.

ترجلت في المحطة المعينة وتوجهت إلى داخل الجبال سيرا على الأقدام بحثا عن مكان هادئ. مررت في طريقي بزوجين يتبادلان الطعن بالسكاكين. الكثير من الأزواج يختارون قتل بعضهم بعضا كطريقة خاصة بهم للموت. درت حولهم بعيدا محاذرة أن أكون في طريقهم. بعد أن سرت على طول الطريق الجبلي لبضع ساعات عثرت على بقعة مهجورة ذات منظر محبب إلى النفس تبدو مكانا جميلا للموت. حفرت حفرة بالمجرفة، متبعة التعليمات في الكتاب. ربما كان شخص آخر هنا قبلي لأن الأرض رخوة وحفرها أسهل مما توقعت.

عندما أصبحت الحفرة جاهزة تمددت فيها وشربت الماء المعدني الذي يحتوي العقار الذي أعطي لي، ثم، بينما كنت لا أزال واعية، بدأت أغطي نفسي بالتراب. لم أستطع فعلها بالضبط كما يمكن لأحد غيري أن يقوم بها لأجلي. لكني مع ذلك تدبرت جعل نفسي مدفونة بالتراب على نحو ما.

أغمضت عيني، وأنا أتنفس من خلال قصبة ظاهرة من السطح، وقد غلفني التراب بدفئه. لن يمر وقت طويل حتى يبدأ تأثير العقار وسأموت مدفونة هنا في الأرض. إن العودة إلى التراب هكذا طريقة شعبية سائدة.

لم أرغب في أن يختلق الناس الإشاعات عني بعد موتي كأن يضحكوا على الطريقة التي مت بها أو يعلقوا واصفين كيف أني كنت عادية في حياتي ثم إذا بي أختار موتا مبهرجا مسببا مشاكل للآخرين، أو يقولون إنه كان يجب علي أن أعرف طريقة للموت أفضل من الطريقة التي اخترتها، ولهذه الأسباب رغبت في أن أموت بهدوء قدر الإمكان موتا من النوع الراقي.

قبل أن تصبح العناية الطبية بهذا التطور كان الموت كما يبدو يأتي من دون سابق إعلان. فكرت أن العقار هو الطريقة الأفضل لأنه سيكون علي أن أدفن نفسي. رغبت بأن يكون موتي متواريا عن الأنظار قدر الإمكان.

فجأة أخذ رأسي يثقل، وعرفت أني أموت. فكرت وأنا أغمض عيني بقوة، ألن يكون شيئا عظيما أن تستعاد الميتات الطبيعية في العالم الآخر؟ ثم فقدت الوعي بغتة.


*****

Freeman Magazine , October 2021. SAYAKA MURATA “FINAL DAYS”     “                        

ولدت الكاتبة اليابانية ساياكا موراتا في العام 1979. صدرت لها عدة كتب، وقد فازت بأرقى جائزة يابانية وهي جائزة (آكوتاغاوا). من بين رواياتها (المنغمسون في مباهج الدنيا) 2018، ومن مجاميعها القصصية (مراسيم الحياة) 2022. إن الثيمة الخيالية الرمزية التي هي الرغبة في الموت ومغادرة عالم تطور فيه العلم إلى درجة أن الناس لم يعودوا يموتون، ليست عند موراتا فقط بل توجد بصيغ مختلفة في قصص الخيال العلمي عند كتاب آخرين وقد ترجمنا سابقا قصة (واستحال كل شيء إلى قمر) للكاتب البلغاري جيورجي جوسبودينوف ونشرت في مجلة الثقافة الجديدة.