المثقف الفضائي من المنبر إلى الشاشة

ثقافة 2023/05/31
...

 عبد الغفار العطوي

 عالمنا الذي تغير بدرجة  ملحوظة في نهايات القرن العشرين على غير المعتاد من التغير المستمر، ويرجع السبب الرئيسي  في ذلك إلى  عصر الأنفوميديا في ثورتها المذهلة  التي اطلقت للتغير التقني العنان  في مسألة التقارب  التكنولوجي  بين المعلوماتية والوسائط الاعلامية التكنولوجيتين، وسجلت مؤشرات التغير في العالم وفي حيواتنا بصورة مدهشة لم يتوقعها أحد، فجاء فجر عصر جديد لم يشهده الجنس البشري إلا مؤخراً، خاصة في إعادة التفكير  مجدداً بكل ما يحيط عالمنا من تغيير سريع، في مثال تطورات الحوسبة  (الكومبيوتر من نموذجه الأول القديم  إلى الموبايل)  وإن عايش الإنسان عنصر التغيير، فإن إندماج تكنولوجية الاتصال بالوسائط الإعلامية  قد جعل من الانفوميديا عالماً  مبهراً، وهي بلا شك قد ألقت  بظلالها على  كل مشروع وصناعة، واحتلت الكومبيوترات  وشبكات الاتصالات موقعاً رئيسياً وسط العمليات اليومية  لكل مشروع أومؤسسة،، بل اصبحت سلاحاً  تنافسياً أساسياً في معركتها  لفرض سيادتها في كل السوق، كما دفعت ثورة الانفوميديا على أثر ذلك لكل من يرغب الخوض في صناعة  التكنولوجيا الجديدة  فرص استخداماتها لهم في مساعدة المؤسسات  في  إعادة النظر في النماذج الشاملة،  ويتخطى تأثير الصدمة  التي تسببها ثورة الأنفوميديا مجالات الأعمال، والمجالات الصناعية، لتؤثر فينا جميعاً على مستوى شخصي، فسيميا تكنولوجيا الاقتصاد لا بد أن تترك أثراً واضحاً في بنية المجتمع إذا ما تغيرت، وهذا  يعني إن سمة عالمنا اليوم  هي استخدامات الانفوميديا في كل مرافق مؤسساته الإدارية والصناعية، وصولاً نحوالمجالات الثقافية والفنية، ومع التسارع الحاصل في هذه الثورة الإعلامية التقنية، لم نجد استجابة صريحة للمؤسسات الثقافية، وبانت ملامح التردد فيها من كونها مؤسسة تقليدية مشاعة، تتقاذفها رغبات  الجمهور المنبري الجامح غير المنضبط في تحد لأهواء المثقف (المؤلف  الكاتب – الشاعر – الأديب –أستاذ الجامعة المختص الخ)  في صراعهما  على ثقافة المنبر في توزيع الأدوار في عملية التبادل الثقافي  القائم على الريعية ، ولعل إشكالية المثقف   في تعامله مع مؤسسته الثقافية لم تكن بذلك الوضوح والجدية  من جانب تحكم ثقافة المنبر في توجيه  بوصلة الثقافة  في اتجاه المجانية، فكانت مؤسسة  الثقافة تحتاج إلى قيود وضوابط خارج عملية الإبداع الثقافي، أي في دائرة ما يمكن أن يصطلح عليها  بدائرة الانتاج الثقافي،  وهي من مهماتها إيضاح طرق الوصول إلى علاقات رصينة لضمان  سهولة سريان الثقافة، وما طرحه  في كتابه)  الفقيه الفضائي)  عالج د عبدالله الغذامي هذه  المسألة في تطرقه إلى دراسة تحول الخطاب الديني من المنبر إلى الشاشة في إيضاح ماهية المعوقات في الثقافة الآن في الفصل السادس حول فقه الصورة باستخدامها من خلال كون الدين ثقافة  (باعتبار الخطاب الديني نوعاً من خطابات ثقافية)   هي ذاتها التي تمنع  المثقف من استخدامات  الانفوميديا لصالح مشروعه أومؤسسته، بعد أن اضطر استجابة لضغوطات الانفوميديا  إلى أن  يعتمد على قيامه في تعامله مع مفردات مؤسسته الثقافية على تشكيلها في ثلاث مفردات ثقافية  (النص واجمهور والمنبر)  وعرف بالمثقف المنبري نسبة  للمنبر، حيث بينه وبين جمهوره تحكمه المفردتان الأخريان ، وبظهور الانفوميديا، دعت المتغيرات إلى وجود المثقف الفضائي كي  يكون  في مواجهة مفردات مشروعه الذي يخضعه لعاصفة التغيير، بمسايرة مستجدات عصره  آخذاً بنظر الاعتبار إن إنتاجه لازال ريعياً في حساسية ثنائية الاجتهاد | التقليد، وفكرة الريعية الثقافية  في الأساس  متأصلة  في الوجدان الثقافي لم تشذبها يد فقيه ثقافي، وتركت لمفهوم خاطئ إن الثقافة  متاحة للجميع، دون ملاحظة إن النهوض  بأعبائها من تطوير وتعميق هي من خاصية  نخبة  (الانتليجنسيا)  خاصة، لأنها المسؤولة  عن مصداقيتها، وتحديد عناصر منصاتها التي يجب أن تغادر علاقتها بالنص في ظل سطوته على المثقف المنبري، والجمهور المتلقي ، في وقف ثنائية  التناوب الإرسال والتلقي  بينهما، مما جعل المثقف يراهن على احتكار سلطة المعاينة والتفسير لمفاعيل النص، ولا يقبل إلا في مواجهة جمهوره عن قرب،ولعل تسمية المثقف بالعضوي وفق التحليل الماركسي  (ماركس، غرامشي، جورج لوكاش، لويس ألتوسير)  كرس سلطة المثقف مع نصه أمام الجمهور في  أن  يرى  ظله  مثل الفقيه امتدادا لذاته الموسوعية المقدسة   (الانسكلوبيديين)   وساهم في منظور فلسفة الكاتب أدور سعيد في اقتران  (الثقافة والاستعمار)  في تسويغ الغزوالثقافي  (قلب الظلمة جوزيف كونراد)  ولم يميز بين أثر المركزيات ونقدها، أوبين الحكايات الكبرى  والسرديات الميتاكارتيف (بوديليار وفوكووليوتار)   وبدوره كان الجمهور يتفاعل مع المثقف المنبري في منافسة شديدة نداً للند في الاستحواذ على شرعية المنبر مناصفة مع المثقف منكراً عليه تفضله في الريادة والجدارة في سباق الثقافة، مما يؤدي إلى ما اطلق عليه الغذامي فكرة  (لا تجتهد \لا تقلد)  أي الحاجة إلى الفقاهة في تفاوت القابليات بين المثقف المنبري العضوي  وجمهوره الأناني  وثقافة المنبر، التي تجعل الصراع ينتهي بينهما إلى الهوامش بدل المتون، وبذاك تتفاقم الهوة بينهما  ويجعلها أكثر اتساعاً، مما يضطر بالمثقف أن يفكر بالبديل المناسب في محاولة  لجعل خطابه التقليدي أقرب إلى إيقاع العصر، وفي ظل الانفوميديا  أن يتحول  وعيه من ثقافة المحرم إلى خطاب المباح، بل  أن يشكل منه وسيلة  جوهرية  في صناعة الخطاب بشرطه التواصلي ، وبهذا يتحول المثقف المنبري العضوي، إلى المثقف الفضائي وفق ستراتيجية خصخصة الثقافة، من نبذ السياقات الثقافية التي تنعت بنبوته ومهدويته المخلصة، بتسليم كيانه الاعتباري والمادي نحوشبكات صناعة الثقافة البصرية والمرئية، بالاستغناء  عن الشكل والمحتوى البروليتاري للثقافة ذات النمط الريعي، وإنشاء مؤسسة وصناعة للثقافة الربحية التي تخلصه من فائض القيمة، من خلال فتح منافذ المساهمة في تحويل خطاب الثقافة من نمط مجاني تقوده الدولة إلى محفز تنموي يدر على المثقف مالاً يجنبه الخذلان والتسول من الدولة الريعية منحة مالية بخسة هي عبارة عن فضلة من موازنة منهوبة،وبذلك لا يحس بالاغتراب عن ذاته ولا عن جمهوره، أي عن انتاجه  الخاص ضمن مشروعه، إذاً المثقف الفضائي يمكنه أن يجعل من الثقافة هدفاً في نقد العالم  ونقد الحضارة التي يشارك في وعيه في بنائها، عندما يتخلى طوعاً عن إن ثقافة المنبرالتي كانت باعتقاده هي خلاصه الوحيد، إلى خلق موازنة بين الكينونة والشاشة، بهجر حاكمية المنبر المقدسة نحوفاعلية الثقافة الرقمية،  وخلق جمهور تفاعلي بديل عن جمهور استحواذي،  وبذلك يتخلص المثقف الفضائي من مسلمات ثقافة المنبر، والتعامل مع ثقافة  الشاشة  بتفاعلية تواصلية  ذات بعدين، البعد  الأول الذي يتفاعل فيه المثقف عبر وسائل وتقنيات الانترنت  امام الشاشة الزرقاء مع جمهوره  التفاعلي، والبعد الثاني الذي ينصت أحدهما لأسئلة وأجوبة الآخر بكل هدوء ضمن مؤسسة عامة افتراضية تحفظ للجميع حقوق الملكية  الخاصة