وطنٌ اسمه فيروز

ثقافة 2023/05/31
...

يقظان التقي 


“وطنٌ اسمه فيروز” عنوان إصدار “أفق”، عن مؤسسة الفكر العربي، ويبرز حدثاً ثقافياً استثنائياً في توقيته، الذي يتزامن مع عيد ميلاد فيروز الثامن والثمانين، وبادرة تكريم، وشكراً على ما انفكت أغانيها تغمر به الملايين، لاسيما شرائح جديدة من الشباب العربي في مشرقه، ومغربه سواء. ثم تكريماً للمؤسسة الكبيرة شعراً ونثراً وموسيقى، ومسرحاً غنائياً، وإخراجاً، والتي أسهمت في اكتشاف موهبتها وتطورها، في مسيرة فنيَّة استثنائيَّة، وفي طليعتها ثلاثي الرحابنة: عاصي ومنصور وزياد.

مجموعة كبيرة من المقالات، والأبحاث (37 بحثاً)، في عمل جماعي، تعددي، ينتمي المشاركون في تأليفه إلى مختلف الدول العربيَّة، دراسات، ومقالات تتسم بطابعها البحثي والأكاديمي ومضامينها الأدبيَّة والفكريَّة، وشهادات يغلب عليها الطابع الذاتي والخواطر التأمليَّة، وتتجاوز على امتداد صفحاتها “مناهج”، التوثيق والتحليل والتقييم. على تعدد مؤلفيها، وتنوع بلدانهم، وجنسياتهم، وموضوعات مقالاتهم وأنماط مقارباتهم. 

 يبرز في الإصدار إجماعهم على الاعتراف بعبقريَّة الرحابنة، نصوصاً وألحاناً وموسيقى، وبفرادة فيروز، صوتاً وأداء، واعتبارها رمزاً، نجمة عالميَّة، ورسولة سلام وإنسانيَّة، طبع الزمن اللبناني باسمها منذ خمسينيات القرن الماضي، وامتدت شهرتها إلى دنيا العرب والاغتراب. إصدار فخم أنيق بالشكل والرسوم الشاعريَّة، وفي طريقة إعداده، أي المنهجيَّة البحثيَّة، وطباعته الأنيقة، وبيئته الواسعة السياسيَّة والاجتماعيَّة، والثقافيَّة، والفنيَّة. ظاهرة كانت جزءاً من تحولات المدينة العربيَّة، والفنّ الرحباني عكس تجريباً مهماً فنياً، جسد ثورة في المسرح الغنائي العربي الحديث. كأن يقال إنَّ بيروت هي فيروز في أزمنتها الفكريَّة، والتجارب، والثقافات، والريف والمدينة، والأنظمة والطوائف، والقبليَّة، والصراع الطبقي. ثنائيات شكلت فضاء أوسع، عكسها الفضاء المسرحي الغنائي الرحباني، صورة عن هذه التعدديات المتناقضة والمتجادلة، وإن بميلوديَّة غنائيَّة دراميَّة شاجنة، ورائعة في حريَّة تعبيرها النسبيَّة، من دون أن تأخذ البلد إلى أمكنة جديدة، أو تنقله من زمن إلى زمن آخر، على الرغم من حريَّة الصوت، وتعبيره، واحتجاجه، وإلى مدى أصاب معاقل التنفس اللبنانيَّة والتنوع. إذن تبقى فيروز وحدها من الهوامش المتفائلة الحقيقيَّة في لبنان، ويُسجَّل للرحابنة إنتاجهم ثورة ثانية موسيقيَّة طوروا فيها الأوبريت، إنتاج الثورة الموسيقيَّة الأولى للسيد درويش في عشرينيات القرن الماضي، مع شدة جماليَّة أغانيه، وتحييده الأغنية التركيَّة، وهو الذي حقق نظريَّة موسيقيَّة من نبرات الناس وأصواتهم. فيما الرحابنة جدّدوا في تقصير مدة الأغنية الفيروزيَّة، وفي النصِّ الشعري والموسيقي، بانفتاحهما على سوسيولوجيا أغنية عربيَّة جديدة، فيها الوجه المضيء من القمر. طارد الرحبانيان عالم الريف الهارب أو الزائل، كأنهما يرسمان مشاهد بصريَّة ثابتة في الزمن، خالية من التحولات الدراميَّة القلقة، ما خلا أعمالاً دراميَّة كبرى متفجرة في “جبال الصوان، وفخر الخدين”... هكذا بنيا عالم الطواحين، الصبايا على دروب عيون العين، ساحات القرى في “البيت العتيق الممحو خلف حدود العتم والريح”، “ثلج صنين”، “قمر مشغرة”، “اللوزيَّة” و”الأرض وسمانا”، “الكروم ومفارق الدروب”، “نواطير الثلج”، “البيت الناطر التلة”، “الصبي (الآتي) من الأحراش”، “الصيف بمواعيده”، “مواسم الحرير”، “عيد العزابة”، “الخيمة في أعالي الجبل”، “السهر في تشرين”، “طير المسا (المساء) جايي من سفر طويل”، “طريق النحل”، “النار الغافية في حضن الموقدة”، “شتي أيلول”... هكذا جعل الرحبانيان هذه الصور الريفيَّة عالماً غنائياً في صوت فيروز القمري. 

عبد الإله بلقزيز كتب: “الظاهرة الموسيقيَّة التي خرجت عن الإطار المألوف، والمنعطف الأضخم، وشكلت اللحظة الفيروزيَّة”.. 

نبيه البرجي : “الأيقونة المكللة لخلاص لبنان، وفي بعض أغانيها عالم من الفلسفة، نحتاج إلى فيروز لإعادة تأهيل القلب”.

محمد الماغوط وصف أغنياتها بـ”سمفونيَّة المطر”، جاك لانغ: “صوت فيروز الكلي”، رفيف رضا صيداوي: “مطربة الماضي والحاضر والمستقبل، سوسيولوجيا كاملة”، سعد البازعي: “فيروز ومعاني الكلمات”، مؤيد الشيباني: “فيروز سيرتنا الذاتيَّة”، نادية الهناوي: “الظاهرة الفيروزيَّة الهويَّة وعمق المضامين”، زياد جمال حداد: “فيروز وكلمات جوزف حرب”، سعدالله آغا القلعة: “قراءة تحليليَّة في معاني الأغاني”، عصام الجودر: “مقر القمر في أغاني فيروز”، نادر سراج: “المخيال الفيروزي الرائع”، نبيل سليمان: “الدلالات القوميَّة لأغاني فيروز في بلاد الشام”، فيصل دراج: “فيروز والولد الفلسطيني”، حنان قصاب حسن: “فيروز على خشبة المسرح”، سليمان الحقيوي: “ثلاثيَّة فيروز السينمائيَّة”، حسن مدن: “فيروز في الخليج العربي”، فكتور سحاب: “ثنائيات الغناء الدرامي”، كريم جمال: “فيروز وأم كلثوم”، إلهام نصر ثابت: “نجمة الأجيال المتعاقبة”، محمد فرحات: “قوة لبنان الناعمة”، طلال معلا: “تشكيل الصوت”، عقل العويط: “الصوت وحده”، سليمان بختي: “حديث البدايات”، فادي العبدالله: “فيروز مبدأ ومآلا، وإرثا”، أحمد فرحات: “في الذاكرة العميقة لأم كلثوم الهند”، بديع الحاج: “صوت الصلاة”، غسان الشهابي: “في شخصياتها المسرحيَّة”، عمرو ماهر: “فيروز والرحابنة في مصر”، سعيد هادف: “فيروز في وجهة نظر جزائريَّة”، محمد المغروز: “إضاءة الكينونة”. كتابات وأخرى تحيل صوت فيروز المجتمع الإنساني المفتوح، وكسر التابوات، والانخراط في أغنية قريبة/ مباشرة تتجاوز الساحة/ الريف، إلى المدينة الواحدة، المجتمع الإنساني المفتوح، عولمة عاطفيَّة، إلى حداثة مجتمعيَّة عفويَّة/ تقريريَّة، من دون أن تؤدي في كل أشكال الأغنية إلى أي تنافر مجتمعي، بالعكس، كأنما هي أغنية انخراط المجتمعات في الحداثة (زياد رحباني)، وفي الحياة اليوميَّة، والحياتيَّة، لكن تداخلا بهدوء وبشكل طبيعي، باعتبار أنها أغنية الطبيعة البسيطة الشاعريَّة. لكن المركبة والعميقة فلسفياً ودرامياً. نظن أنَّ الأغنية الفيروزيَّة تسلك طريقها مثل الأنهار والسواقي، طرقها المبسطة المباشرة، تكون قادرة على إيصال ما تريده بسلاسة وعذوبة، بلغة فنيَّة وشعريَّة في آن واحد، مسرحيَّة ملونة، مع اسكتشات مصورة، ولا شيء يعرقل وصولها، إلى الشارع، الأرياف، المدينة، بين النخب، وبين الناس، بين الأساليب الكلاسيكيَّة، والتجريبيَّة، والشعبيَّة. الرحابنة تمردوا أولاً على أنفسهم، في التجاوز والتخطي، والجنون بالمعاني الشعريَّة. دنيا النغم فيروز، الصوت، المرأة الصامتة المميزة، رافقت حياة اللبنانيين منذ الخمسينات إلى اليوم، وها هي ترافق الشباب العرب، بأسلوبها الخاص في الغناء، والغرفة الشعريَّة كغرفة إضافيَّة، ومسرح الحياة الذي عاد ينصفها، مع كل الذين شحنوا أغانيها برسائلهم، وتدفقاتهم العاطفيَّة ومنهم الشاعر سعيد عقل، جوزف حرب، طلال حيدر، أنسي الحاج، ميشال طراد.. والملحن عاصي، وإلياس الرحباني وزياد، عبد الحليم الرومي، فيلمون وهبي، توفيق الباشا، وليد غلمية، إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب وآخرين. بالنهاية هي الصوت بكل ملامحه وتعبيراته الجميلة، يتحرك بلغة الإحساس، والكثير مما يحتاج له لبنان والعالم لإعادة تأهيل القلب. لصوت فيروز، الهادئ والخافت، والشاجن، الطالع من الظلال، والأنهار، والصدى صنع الرحبانيان أغانيهما. استمدا مناخات تلك الأغاني. من عوالم الاجتماعي، طبيعة الريف وعالمه وتراثه: من الزجل والمعنى والموال والميجنا والعتابا والحكايات الشعبيَّة في جبل لبنان وساحله. لكنهما استعادا ذلك التراث الشعبي مصقولاً بذائقة شعريَّة جديدة مستمدة من “ثقافة المحدثين في إعادة توزيع الموسيقى العربيَّة، خليط مفتوح من موسيقى العالم لقد مزجا كل أنواع الموسيقى التي سمعاها: من إيقاعات الفولكلور المحلي، الموسيقى الشعبيَّة العفويَّة، إلى التراتيل الكنسيَّة. وصولاً إلى الموسيقى الإيطاليَّة والأوروبيَّة. ذائقة ريفيَّة متمدنة، وحوّلت عالم الريف وطبيعته وصوره أغنية مصورة لكل الفصول والألوان .

عالم شغف وحنين رومنطيقيين في ما لا يُحصى من الأغاني، وكثرة من المشاهد والأدوار المسرحيَّة الغنائيَّة في المهرجانات الفنيَّة: بعلبّك، الأرز، معرض دمشق الدولي، مسرح البيكاديللي في بيروت، طوال الربع الثالث من القرن العشرين. هذا إضافة إلى حفلات غنائيَّة في العواصم العربيَّة، وصولاً إلى أوروبا وأميركا.


“هونيك، في شجرة ورا (وراء) النبع الغميق/ محفور لي (صورة) على كعبا العتيق/ يا شجرة الأيام فرقنا الهوى/ فرفط لنا الورقات وعرينا سوا/ يا ناطرة وحدك على مهب الهوا/ متلك أنا شجرة على مفرق طريق”. عالم رومنطيقي شعري/ رمزي/ مقيم كضربة قلب، وهي صفة موسيقى وأغنية تعبيريَّة، استثنائيَّة.

 كتاب بمؤثرات رائعة، لجمهور ولقراء يحفظون أغانيها غيباً، القديم والجديد منها. وهذا مفرح جداً، يتدفق بالرسائل الدافئة. اكتشف الرحابنة دنيا الصوت، صارت زمناً يبحث عنه، أو الحنين بين زمنين ويجذب جمهوراً شاباً عربياً جديداً، يعتبر فيروز أسطورة الأغنية، وبلا انفصال عنها. وطن لبناني، وآخر، يتوسع في العراق والمغرب العربي ويستقطب الجيل الرابع والخامس من الشباب العربي المقيم والمغترب.