أ.د عامر حسن فياض
تعرف التعددية في أسهل معانيها بدلالة نقيضها المتمثل بالواحدية.. وهي من اللاتينية وتعني متعدد ومتكثر. وقد أصبح من الواضح أن للتعددية المعاصرة لونا من ألوان الدفاع عن النظام الديمقراطي الموجهة أفعاله ضد النزعات والاتجاهات الواحدية الشمولية الكليانية المطلقة.ولن يتسع المقام هنا، بطبيعة الحال، لاستعراض جميع ما تفتق عنه الفكر الانساني من تبريرات ومسوغات لمناصرة الواحدية ولطمس أو الالغاء القسري للتمايزات الاجتماعية والسياسية لمصلحة جماعة جهوية مهيمنة،
بدءاً من نظم ديمقراطية القلة الاحرار في الدويلات اليونانية القديمة ودكتاتورية الشيوخ والفرسان الرومانية القديمة أو حكم النبلاء الاقطاعيين في أوروبا العصور الوسطى، أو نظريات روح الشعب وسيادة الأمة والدولة في الفكر النازي والفاشي أو غير ذلك من الافكار والممارسات التي تحاول باسم افضلية العام على الخاص والجماعة على الفرد، تحاول تبرير الحكم الواحدي الكلياني الشمولي المطلق مستندة إلى ضرورة النكران لوجود حقيقة التمايزات الاجتماعية والسياسية داخل كل مجتمع سياسي حديث، وبالتالي انكار حق المكونات المتنوعة والمتمايزة في التعبير الحر والفعل السياسي المستقل.
وعلى أي حال، وأياً كان حجم الارث الاستبدادي الواحدي وهو يحاول طمس التمايزات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع، فقد اسفر الجهد الانساني في مناهضة الاستبداد، ومن اجل الحرية والعدالة والاداء السياسي الرشيد، اسفر عن ضرورة الاعتراف بالتعددية السياسية داخل المجتمعات السياسية المعاصرة، كما اسفر عن تأكيد ضرورة أن يؤمن النظام القانوني الدستوري للفئات الاجتماعية والسياسية كافة، الحق في التنظيم المستقل والحق في التعبير عن الرأي، وضرورة التسليم بالطموحات المشروعة لمختلف الفئات الاجتماعية في سعيها السلمي للوصول إلى السلطة السياسية والمشاركة فيها تحت مظلة تنظيم تشريعي يسمح بذلك ويقننه.
ونستطيع ان نستقرئ هذا الاجماع الانساني المعترف بالتعددية السياسية بواسطة النظم السياسية الرسمية في النصوص المتعددة الموجودة في عديد من الوثائق الدولية ذات الطابع العالمي، وفي جميع الدساتير الوطنية في عالمنا المعاصر.
بعد ذلك لعله من المقبول أن نتبنى تحديد لمفهوم التعددية لنقول انها تعني تعدد الجماعات الاجتماعية، التي تتبنى مفاهيم متميزة عن بعضها للواقع والمستقبل السياسي للوطن داخل المجتمع الشامل.
وبهذا المعنى فإن التعددية الاجتماعية ظاهرة ملازمة في وجودها واستمرارها للمجتمع البشري منذ عرف هذا المجتمع ظواهر التبادل السلعي والملكية الخاصة والدولة، بل وقبل ذلك وبعده فان التمايزات الثقافية والعرقية والدينية بما تفرضه من تمايزات في الرؤى والمواقف السياسية هي تمايزات ملازمة لطبيعة المجتمع البشري ذاته. وفي سياق واقعنا يتجدد مفهوم التعددية السياسية، بوصفها حقا وحقيقة الجماعات الاجتماعية والسياسية في الاعلان عن نفسها والتعبير عن مطالبها ومصالحها، وأكثر من ذلك حقها في المشاركة السياسية الرسمية بأن تكون لها منابرها وقنواتها وتنظيماتها المستقلة، التي تمكنها من الاعلان عن رؤاها ومواقفها السياسية، بل تمكنها من تحقيق هذه الرؤى والمواقف في مجال العمل السياسي.
وعلى هذا الأساس فإن تلمس صيرورة وبواكير الدعوة للتعددية السياسية في العراق الحديث سيكون ميسوراً عبر متابعة بدايات الدعوة إلى مناهضة الاستبداد، بوصف الأخير بمثل الحالة المجسدة للشمولية والكليانية الواحدية في الحياة السياسية، كذلك نتلمس هذه التعددية السياسية، من خلال تسجيل المطالبات العراقية الصريحة بالتعددية الحزبية وتعددية الرأي بوصفها الاعمدة الاساسية في التعددية السياسية.
والواقع أن مقومات صيرورة فكرة التعددية السياسية في العراق الحديث هي مقومات وضعية اكثر منها موضوعية، الأمر الذي وضع أمام استيطان هذه الفكرة ووجودها وانتشارها في هذه البلاد شرطين لا ثالث لهما: الأول، هو شرط الوعي الذي لايمكن الفكاك منه إلا على ايدي المثقفين العراقيين، والثاني، هو شرط سياسي يتمثل بوجود نظام الحكم ومؤسساته المصاغة وفق المبادئ الدستورية البرلمانية.
بمعنى أدق أن مقومات التعددية في العراق الحديث اعتمدت شروطاً فكرية وأخرى سياسية.
فالشرط الأول، اي الفكرية، كان قد وفرها المثقفون العراقيون الذين نزعوا نحو شق دروب النزعات العقلانية والعلمانية والطبيعية المستندة إلى مبدأ الحرية.
أما الشروط السياسية فإنها تمثلت بوجود الدستور والمؤسسات الدستورية المعمولة وفق الصيغ التمثيلية البرلمانية، التي عرفها العراق اضافة إلى وجود الاحزاب والقبول بالتعددية الحزبية من جهة ووجود الصحافة المتعددة والقبول بتعددية الراي من جهة ثانية.
فواقع هذه المؤسسات إن لم يكن يشير تماما إلى حقيقة وجود التعددية السياسية فإنه يشير، على الاقل، إلى مقومات اعتمدتها الدعوة لفكرة التعددية السياسية على اساس امكانية اعتبارها بمثابة مرتكزات مؤسسية وفرت الفضاءات السياسية المناسبة للمطالبة أو للدعوة إلى فكرة التعددية السياسية في العراق الحديث.
وباختصار شديد ينبغي أن نفهم أن من لم يقبل بحقيقة التعدد والتنوع سيعيش في خدمة وهم الواحدية الشمولية والتوق الواعي أو غير الواعي للاستبداد.
وأخيراً فإن من لا يقبل بالتعددية السياسية بشقيها التعددية الحزبية وتعددية الرأي سيطمس اما في مستنقع الفوضى الشعبوية أو في مستنقع الشمولية الاستبدادية.