{شبح نصفي» ثقافة الاتصال العابرة للنظم الجمعية

ثقافة 2019/04/23
...

د.عبد الواحد مشعل
 

 لا يزال الأمل موجودا ولا تزال الساحة الثقافية ولوده، وولادة رواية “شبح نصفي” إبداع مميز في الرواية العراقية المعاصرة، بصفتها ترجمة جديدة لفن  رواية  رمزية، ناقلة لأفكار متعاقبة، و تقديمها بطريق ممتعة على غير ما اعتادت عليه الرواية التقليدية في تراثنا الأدبي عندما تتسلسل إحداث رواياته من نقطة لتنهي في أخرى ، بتسلسل مقنن  ينقل القارئ الى إحداث  متتالية يريدها القاص ويترجم من خلالها واقعا  حياتيا.

 إلا أن رواية الأفكار في ( شبح نصفي) إنما هي تسلسل من نوع خاص، مربط الفرس فيه (المرويات) التي تنبع من الذاتية الى فضاء اجتماعي متكرر منذ القدم بمعاني ودلالات لها حضورها في مواقف مختلفة. 
وهو بحد ذاته أسلوب جديد يجعل القارئ الحديث يتفاعل معها بطريقة تتلاءم وواقع القراءة اليوم لتنقل لنا في ظروف محددة قصة متكاملة تحمل في طياتها رمزية تنطلق من حدود تاريخ عائلة تحكمه ظروف مكانية وزمانية وشخصوها مؤثرين بتمثلهم حقب متتالية من قصة إنسان الرافدين  بحدودها
 الواسعة.
 
منحوتة جواد سليم
 ينقلنا الروائي بحكمة الى منحوتة جواد سليم التي تصور معنى الحرية،  تلك القيمة التي يبحث عنها ابن وبنت الرافدين ،مع تضمين الروائي في توظيفه للمنحوتة برمزية السواد عند (حسنيه) التي تعبر  عن حزن عميق،  يبحث أصحابها دائما عن متنفس للحرية يبدو ما زال بعيد المنال، هي محطات انتقال من صراع مرير بين بيئاتها المختلفة التي ما زالت (العائلة) تبحث عن المُلك في خضم سلطة استبدادية صقلتها طبيعة الحياة الصحراوية.
وطبيعة التكوين الحضاري في ارض المياه المعطاة، راسما لنا (الروائي) صوره رمزية في غاية الروعة عندما اقر بتناسل الاستبداد، ، وأن صراع المستبدين مع بعضهم يبقى قائما حتى بعد مماتهم. 
وتبقى الحرية تبكي نفسها على الرغم من تحليق جواد سليم ومنحوتته الرمزية منذ خمسين عاما واكثر، إن الحرية اغلى شيء في الحياة إلا أنها لا تزال حلما معلقا لدى أجيال  تنتظر انتهاء الاستبداد
 الأبوي.
   هجرة تلك العائلة وسواها  لم يخلصها منه بل أفقدتها ملكها الأصلي الذي لا تزال تبحث عنه وسط واقعهم الصراعي الذي لم يغير من الحال شيئا، إذ لا يزالون يرون النصف الملآن مملوءا والفارغ فارغا، وكان  الروائي يريد أن يقول شتان بين دلالة الملآن ودلالة الفارغ  وهما لن يلتقيان ،فشتان بين الخيال
 والواقع.  
 
الحرية ومعاقل الاستبداد
الرواية بحد ذاتها تعكس لنا تصورا شاملا لتاريخ الإنسان صانع الحضارات وفاقد الحرية ،أمر محير في خضم تلاطم أمواج التاريخ المليء حزنا ومآسي والبحث عن مُلك  يظهر انه أصبح وهما، ولكن شتان بين هذا وذاك، في أزمنة متعاقبة يظهر فيها الاستبداد بإشكاله المتعددة وبآيدلوجياتها وأصوله التاريخية والثقافية الظاهرة في نظمه الأسرية والقبلية والسياسية التي جميعا عازمة على قهر الإنسان، والأخير نفسه لا يزال منقسما في النظر الى ذلك الكأس من دون قدرته على تحقيق تكامل بينهما، ما يجعل من الحرية قيمة يرنو لها  في خضم  المآسي  والحرمان والقهر. 
وفي سياق مستمر تبقى معاني الحرية واقفة تنادي (أنا الخلاص) ، وجموع الفقراء المنتفضة (تجمد الزمن) قبل الشروع بأي اقتحام لمعاقل المستبدين ، وهو مشهد يتكرر جيلا بعد آخر ،لتبقى أنصاف الأشباح، على سيرتها الأولى، ولا تزال القافلة ماضية الى مستقبلها تستمد تكرارها من ماضيها، انه تعبير دقيق لما تريد أن تقوله الرواية في معناها التكاملي
 الرمزي. 
قد يكون  الروائي يقصد أشياء أخرى ولكن القارئ  مثلي ربما يرى في حكاية تلك العائلة بظروفها الزمانية والمكانية وأشخاصها المحدودين، وعلاقتهما الرمزية بعبد الفتاح إبراهيم ومنحوتة  جواد سليم معاني ودلالات يقتحم  بها الروائي وبشجاعة أسوار الرواية التقليدية  ليقتحم بذكاء لغة بنية العقلية العراقية بتلاحقها الحدثاوي في زمن التقاطع بين الأجيال ، ربما سيكون في هذا بداية مشروع جديد للروائي بشأن الكأس في تجارب القادمين من حاملي ثقافة الاتصال العابرة للنظم الجمعية ، ومن يدري  قد يختفي (الشبح النصفي) ، ويأتينا الروائي يوما  ما  ،معلناً  امتلاء الكأس كله.