النظرة الدونيَّة للفنان

ثقافة 2023/05/31
...

سامر المشعل 

عندما أراد الموسيقار سيد درويش الزواج، سأله المأذون عن مهنته فقال له أنا "موسيقي"، رفض المأذون تحرير عقد الزواج. شعر درويش بالحرج والخجل ازاء امتناع الشيخ من ابرام العقد، وكان لا بد له من ابتداع حيلة لاقناع المأذون، فقال له "يا شيخ انا امزح معك، أنا أعمل تدريسي"، وبذلك وافق المأذون على كتابة عقد زواجه.

لنتوقف قليلا عند هذه القصة، وهي واقعة يرويها نجله حسن درويش في كتابه الذي ألفه عن والده بعنوان "من أجل أبي"، والتي حدثت قبل أكثر من مئة عام في مجتمع عربي مصري، وما زالت المجتمعات العربية عموما والمجتمع العراقي خصوصا تنظر إلى الفنان والموسيقي نظرة دونية، كونه يمارس مهنة منحطة اجتماعيا ولا يليق بالأسر المحترمة والمحافظة أن تقترن بـ "دنبكجي"، لأن ذلك يخدش سمعة العائلة وحشمتها ويحط من مكانتها اجتماعيا.

سيد درويش المرفوض اجتماعيا، الذي استنكف المأذون من تزويجه، أصبح في ما بعد هو الناطق الرسمي للشعب المصري، اذ توغل في الطبقات الشعبية الكادحة والمناضلة ضد الاحتلال والاستعمار الاجنبي، وكان اللسان الناطق بكل جرأة وصدق عن الاحرار والثوار المصريين من خلال ألحانه وأغانيه، التي جسدها بعشرات الاغاني والموشحات، حتى نال أسمى وأرفع لقب فني وهو "فنان الشعب"، واصبح نشيد "بلادي بلادي لك حبي فؤادي.." الذي لحنه سيد درويش هو النشيد الوطني لمصر.

الكثير من الفنانين والعاملين بقطاع إنتاج الاغاني يتجنبون الخوض في هذا الموضوع الحساس اجتماعيا، على الرغم من انهم يتلظون جمرات الواقع بعاداته وتقاليده على المستوى النفسي والاجتماعي.. فالموسيقي والمغني بنظر البعض عورة ومن المعيب الاقتران به.

وبسبب هذه النظرة الناشزة للمطرب والموسيقي والفنان.. الكثير منهم يتأخر زواجه أو يفضل البقاء أعزب، ليدفع بذلك ضريبة تقاليد المجتمع على حساب استمتاعه بالدفء الاسري. حتى أن أحد الأصدقاء ولكي يتجنب لقب "مطرب" راح واكمل دراسته العليا وحصل على شهادة الدكتوراه التي لها صدى ايجابي بالمجتمع، ومع ذلك فشلت مساعيه بالارتباط بالمرأة التي يريدها زوجة له، لأن اهلها عرفوا انه دكتور 

بالموسيقى!.

ومن المفارقات الغريبة أن عموم المجتمع يحب الفنان ولا يمكن الاستغناء عنه، خصوصا بالافراح والمناسبات والاعياد.. فلا تكتمل الافراح والاعراس الا بوجود الغناء والموسيقى، لكنهم على المستوى الاجتماعي لا يفضلون الاقتران به، وهذه ازدواجية ظلت مرافقة للكثير من الناس منذ مئات 

السنين.

بل تفاقمت هذه النظرة الدونية وتجاوزت العيب إلى الحرام بعد التغيير السياسي بالعراق في العام 2003 بعد نفوذ الاسلام السياسي إلى السلطة، فاخذ يشعر الفنان أن النظرة الدونية أخذت تتسع من دائرة الواقع الاجتماعي إلى المنظور العام للدولة.