المصوّر وحيد

ثقافة 2023/05/31
...

 حبيب السامر


ما أن تبدأ شمس ظهيرة كورنيش العشّار بالمغادرة إلى مكمنها رويدا، رويدا، حتى يبدأ الناس بالتواجد في ذات المكان المطل على الجسر الإيطالي وهو يترك ظلاله على انحناءات الموجات المتعاقبة في شط العرب لتصل إلى غفوتها على صخور تميل إلى خضرة داكنة من حركة ماء النهر في لحظته الأخيرة، قد تتمرّد موجة لتعود إلى السطح الساكن بعد هدوء هيجان الموج. 

في هذا المكان الأليف الذي يشهد تدفقا متزايدا من الناس وهم يمارسون طقس بهجتهم، يلفت نظرك بعض أشخاص تتكرر وجوههم وحركتهم من خلال تواجدهم اليومي، كان المصور وحيد منهم وهو يلوي عنق الحياة ليتجاوز محنته، أحنى الدهر سنواته، يعيش مع كاميرته (نيكون) تحت ظلال السيّاب، يسرق اللحظة المناسبة للقطة ساحرة، كي يضعك في زاوية يحسبها مناسبة، يغلق ويفتح عينه في مربع النظر الصغير، ليحصد لقطته وهو يقترب منك كي ترى ما دوّنته الكاميرا.

بنظارته السميكة، وتجاعيد وجهه المتقاربة، يعلق كاميرته على كتفه، مع حقيبة للصور ومغلفات بأسماء الأشخاص الذين ينتظرون صورهم في ذات المكان، هذا الرجل البصراوي الخجول يومها كان في ستوديو المغارة بجانب ساحة أم البروم وقد تدرّب على مهنة التصوير في صغره ولازمته طيلة سنواته، مجموعة صور في مغلفات، يحرص على سرية اللقطات وبالذات الأسريَّة منها، هكذا تعوّد منذ أن كان اصبعه يرتجف وهو يضغط على زر صغير أعلى الكاميرا لحظة احكام الصورة، ويتذكر بحسرة آلاف اللقطات والشخوص الذين مروا به، وهم يحبسون أنفاسهم من أجل لقطة الحياة. 

يأخذ مكانه المعتاد تحت شجرة عتيدة في لحظة استراحته، وهو ينظر إلى الناس بهدوء ويتلقى التحايا منهم، حتى بعد أن تنوعت الوسائل الحديثة والتقنيات المتطورة في صيحات الموبايل وأسعارها الخارقة التي تعادل سعر سيارة في زمن قريب، لكنه ظل ممسكا بها، لم يأبه أن يغادر كاميرته التي يحسبها مثل حمامة أليفة تغفو بين يديه، حين تسأله عن ذكرياته، يكتفي بالقول كثيرة جدا، وتحاول أن تستدرجه في الحديث يقطعه عليك بعضهم وهم يطلبون صورة تذكارية قرب تمثال السياب الذي وضع في زاوية مهملة بعد انتعاش الكورنيش الجديد، يفصله عنه قليلا الجسر القديم، هذا التمثال الذي يعد ايقونة البصرة حين يقصدها الزائر في مناسبات عدة وأبناء المدينة كي تنتعش ذاكرتهم بلقطات قرب التمثال، هل ندرك سر هذا الكنز المعرفي كي نبخل عليه بقليل من الاهتمام والإدامة؟، اخذتني أفكاري بعيدا وأنا أنظر في التماعة عين (وحيد) وأتحدث عن أبي غيلان في التقاطات العالم وكيف ترعى مثقفيها. 

اتكأ على السياج الفضي وهو يسرّح النظر بعيدا في الجهة المقابلة ليستقر نظره على بعض مراكب قديمة غاطس بدنها وبعض صيادين صبورين ينتظرون التقاط الطعم من سمكة عابرة، وحركة البلم العشاري بجولاته في شط العرب، وصوت غناء يخرج من سفينة صغيرة بألوانها المبهجة، صوت المطرب الشعبي وهو يتسلل إلى أسماع الناس كي يمتص ضغط الحياة عنهم، فيما كان (أبو ابراهيم) يلتقط صورة لشخص يحاول أن يمزج بين وقفته والسفينة الضاجة بالحياة.