أليس مينيل.. أهمية الشِّعر مَرهُونة بالصّمت

ثقافة 2023/05/31
...

  ملاك أشرف

رحلت الشاعرة أليس مينيل (Alice Meynell) في يوم 27 نوفمبر من عام 1922 عن عمر يناهز 75 عاما؛ نتيجة سلسلة من الأمراض تفاعلت مع الاكتئاب واغترابها الداخليّ المزعج والمثير للقلق؛ مما أفضى بِها إلى المغادرة التعيسة الحتميَّة في النهاية. ولدت أليس المغمورة عربيًّا في لندن عام 1847 وتحديدا في بداية أكتوبر الخريفيّ، حيث تساقطت في الحياة كثيرا مثل أوراقهِ الذابلة والمتيّبسة تماما، أحبّت الرّبيع وعاشت بوهيميًّا في إيطاليا لمدة طويلة، أثرَ هذا فيها روحيًّا وعاطفيًّا.

 بذلت جهدًا جليًا وملموسًا في الصّحافةِ والمقالات النقديّة وكتابة الشِّعر الوجدانيّ الغنائيّ، الصّاعق والفريد من حيث شكله ومضمونه حتّى قالت يومًا: ليست الزّهرة أو الأُغنية الّتي أفكر بِها هي ملكي، بل هي ذاكرتي. عملت مرّاتٍ عدّة مع زوجِها في إصدارِ مجلّات أسبوعيّة وشهريّة وقيل إنها ألفت كتابًا دينيًّا معنوّنًا بـ (المسيح في العالمين)، لا أنسى أن أشيرَ إلى أن اسمها الحقيقيّ أليس كريستيانا جيرترود، ومينيل أُضيفَ بعدَ زواجِها.

الحبيب عندها كأنَّهُ ملاكٌ، ينتقيها لِتكونَ خاصتهُ فكتبت: يلتقي ملاك بملاك في الطّريق.

عُرفت أليس بتكتمها وزهدها المعروف بالرّهبنة وجمهورها الواسع المُحبّ فضلًا عن تمرّدِها الهادئ واعتناقها للكاثوليكيّة، الّتي وقعت في حُبِّ كاهنها وأسهمت تدريجيًّا في تغيّرها وتفانيها الدينيّ، وصفها الشّاعر الإنكليزيّ (والتر دي لامار): بأنها واحدةٌ من الشُّعراء القلائِل الّذين يفكرونَ فعلًا في الشِّعر. اشتهرت بمجموعة من شِعرها الصّادق الغريب والصّريح، المكتوب بأسى شفيف، والّذي ينبعُ من روحٍ تزدحم بالأفكار الشّاعريّة والرّغبات العاريّة غير المُموَّهة كما لو كانت مُحيطًا فاتح الزُّرقة ونقيًّا، روح تعيش على حافّةِ النّسيان النّهائيّ، “لقد جئتُ من لا شيء./ ولكن من أين تأتي الأفكار/ الّتي أحملها معي دومًا والّتي لا تموت؟” هكذا ردّدت مينيل وحالها العدميّ أمسى مُبهمًا ورُبَّما مُتخبّطًا وقتها.

كانت قصائدها البسيطة والحزينة على نحوٍ لطيف تُديم صورتها اللّامعة المُهذبة وهي صفاتٌ مُتأصّلة فيها قبلَ فنّها ونغمتها الدراميّة المُغريّة؛ لذا مارست الفنّ من أجل الفنّ رغم أنّها أسّست بتلكَ القصائد نظريةَ التّناغم الداخليّ للمُفردات إلى جانب مفهوم (المدّ العقليّ) المجازيّ المُعبّر عن ترابط الأفكار وتدفّقها، في حين لا يزال شِعر مينيل هامشيًّا للكثيرين.

كتبت أيضًا في مقالتِها ساعات النّوم عن إيمانها بعقل الإنسان الليليّ الديناميكيّ بطريقةٍ شاعريّةٍ كالآتي: “قوّة العقل في الأحلام، وهي لا يمكن تفسيرها لأنّ العقل مستيقظٌ ولا داعي للحيرة؛ إنها ساعة عودتهم لأنّها ساعة المدّ، وهُم يعودون بالفعل” يعدّ هذا جزءًا من استكشافها للحياة العقليّة المُعقّدة وانهماكها في أسرارها، فهي الموطن المُساعد في تكوين الشِّعر والمُسمى بـ (الإدراك ذي المغزى).

تمثل مينيل الرّاهبة رمزًا للصمت وتحدٍّ هادئ لأيقونات ذكوريّة ثابتة، كانت تعتقد أن الصّمت الرنّان هو أحد نقاط قوّة الشِّعر، ذلكَ الشِّعر الّتي هيمنت عليه نبرة التّخلي، عندما غادرت أوضحَ الشّاعر الإنكليزيّ جي كي تشيسترتون أن إنجلترا فقدت شاعرًا عظيمًا. لَمْ يقلْ شاعرةً، بل شاعر وخصّ بالذّكر إنجلترا (موطنها الأصليّ)، على ما يبدو أنهُ دليلٌ مُقنِعٌ على دلالة الشِّعر الجنسانيّ (الجندريّ) المُضمرة في أنساق خطاباتهم المُباشرة وغير المُباشرة بلا ريب!.

درسَ النّاقد لايتون رينولدز لاحقًا معيشتها، واقعها وكتاباتها بناءً على حُبّهِ لها ونفاذ بصيرته إذ اختزلها بالقول: أصبحت مينيل فريسةً لصداعٍ مُعجزٍ وعانت من حواجزَ إبداعيّة طويلة حينما تحوّل الصّمت الّذي أدعتهُ إلى حقيقةٍ مُؤلمة ومُعيقة. هكذا وصفها مُؤكدًا كونها نبي السّكوت والكآبة، نذير الامتناع والإِبَاء فضلا عن انضباطها الذاتيّ الكاثوليكيّ المحسوم.

“أنتَ تنظر إليَّ من مكانٍ آخرَ/ أنا لا أتطرّق إلى سرِّ هذا اليوم ولا هذا الشّيء/ أن الصّمت يجعل عينيكَ ناعمتين” مقطع شعريّ تقوله مينيل مُتذمّرة ومُوقّرة سكينة المُقابل.

غالبًا ما تدعو قصائدها القارئ إلى التّفكير، التأمّل والتّساؤل عن مستويات المعنى المُتغيرة المُوقظة للذهن والهُويات الّتي شكّلت ببطءٍ قدرتها الفنيّة الأدبيّة، بينما تعيش مينيل يوميًا بشكٍّ معرفيّ، مُعلنةً نفسها شاعرة ستموت غير مُدركة. لديها قصيدة تنتهي على هذا النحو: “من خلال كلماتي اللّا مبالية في كُلِّ يومٍ/ سوف ترنّ القوافيّ المُبعثرة وغير المُنتظمة/ وتصنع قصيدتي؛ ولن أعرفَ”.

وقفت إلى جوار الشُّعراء الإنكليز، أولئكَ الّذين لا يحبّون القصائد تبدو مُكتملةً للغاية أو مُحاطةً باليقين الأعمى لكنها ابتعدت عنهم عندما امتلأت أعمالهم بالأصوات المُخالفة لقصائدها المملوءة بالهمس أو الصّمت الموحي بالشّفقة.

كما تناولت بعض قصائدها الخيال الشِّعريّ، حيث اِبتنى وشيَّدَ النّاقد والشّاعر الرُّومانتيكيّ صامويل كولريدج قاعدةً متينةً بتنظيراتٍ واعية لهُ سلفًا. عثروا بينَ رسائلها على رؤى حكيمة صادمة وحقائق صوفيّة مهمّة، فَفي إحدى رسائلها قد كتبت أن الجحيم هو ثقل أفعال المرء بعدما فشلت في حُبِّ مَن أحبّوها وتحملت على مضضٍ آلامها وعليهِ تمضي قائلةً بندمٍ قاسٍ وإحساسٍ مُريبٍ: لن أتوقفَ أبدًا عن الأسف على بعض المقاطع والمشاهد من حياتي، أنا مُتأكدة من هذا إلى الأبد، لن أتوقفَ عن الحزن كذلك، سوف تكون نتائج تلكَ الأفعال حاضرةً في أيّ نوعٍ من الأبديّة الّتي قد أكون فيها..

ثُمَّ أكملت تعبيرها وبوحها البائس عمّا تفوّهت بهِ آنذاك وعمّا أحدثتهُ جراء البلاء الصّادر عنها: “أنا لن أعيبَ الطّريق الّذي يمرُّ،/ قدمي الّتي تُخطئ/الوصول، الخطوات، الفنّ، الوقت والعابر”.

لَمْ تكتفِ باعترافها الشّجن قط ولَمْ تعوّل على نظرةٍ أُحادية تَشي بنوعٍ من الاستسلام المُضني، بل واصلت تُصرّح كيف يجب أن تكونَ أُغنيتها البشريَّة هي فكرتها الإنسانيَّة لا مُحال، تكمن رُومانسيتها الفيكتوريَّة في اعترافاتها الحزينة المُتباينة والعابرة بلا فرار: “من بحث عنكِ يا أُغنيتي الصّغيرة؟ هذا الشّتاء قلب شاعرٍ صامت..”.

في إحدى قصائدها وصفت نفسها المُتعبة بهالةٍ مُرتعشة ومجهولة نوعًا ما حيث قالت موظفةً عناصر الطّبيعة كرموزٍ تشرح مُعاناتها وأفراحها بدقّةٍ وعناية كما تشتغل في جميع أشعارها، الّتي تنتقي ألفاظها المُناسبة بطريقةٍ أثيرةٍ نحو (جدول، ينابيع، أراضي، تلال، سهول وثلوج..): “أنا مثل جدول يتدفّق/ مليئًا بالينابيع الباردة الّتي شقت طريقها/ في أراضي الصّباح، في التّلال البعيدة/ وأسفل السّهول تذوب الثّلوج المنسيّة..”.

تمشي الشّاعرة إلى الحياة والحُبّ وحيدةً ولَمْ يهدأ غضبها المرير غير الظّاهر للعامّةِ أبدًا اللهم إذا ما كتبت مثل صور هذهِ المقطوعة الشِّعريّة: “هُناك خريف لَمْ يتلاشَ حتّى الآن/ هُناك أوراق لَمْ تسقط بعد/ أيّ عندما أُقبل، يمكن أن أُقبلَ مرَّةً أُخرى/ وتشفق، تشفق على أنني أشفق على الجميع/ وتحبّني في المطر والضّباب”.

أو يراودها شعور الهجران والاغتراب المُؤطّر بالخيبةِ النّاجمة عن النّكران فتكتب تائهةً وذاكرتها تعاقبها، إذ تستعمل لفظة (الرّيح) الهائجة المُعذبة بدلًا من لفظةِ (الرّياح) البطيئة الرّحيمة في قصيدةِ (أُغنيةُ اللّيل عندَ الفجرِ): كُلُّ نجومي تهجرني/ وريح الفجر ها هي تهزّني/ أين أراهنني؟/ إلى أين أركض/ حتّى تغيب الشّمس/ حتّى ينتهي اليوم؟/ إلى منجم الجبل/ إلى أغصان الصّنوبر/ إلى الرّجل الّذي لا يرى/ أو الجبين المُنحني على الرّكبتينِ،/ المُتعب من الذّكريات؟”.

وأمّا تعود إلى قسوتها المُحقة، كبريائها وإرادتها المُصرّة وتقول: “فنجاني المُمتلِئ من هذا المدّ النهريّ/ لن يعطشَ أبدًا إلى ذلكَ البحر الطّويل الحزين”.

أليس مينيل إذن عبارة عن صرخاتٍ مكتومة، رغباتٍ مدفونة كانَ من المُفترض ألّا يأتيها الغياب والموت لكن القارئ توهمها صمتًا مديدًا حقًّا حينئذٍ ليطويها النّسيان بمرورِ السّنوات، فصدقَ هي صامتةٌ غير مُضيئة وسَوّغ لمجيء النّسيان كي يكتسحها ويتوارى معها حتّى قُرّائها المُخلصين البلغاء في هوّةٍ سحيقة. صنعت مينيل شكلًا بارعًا لموتِها واختفائها وهو الصّمت بملامحهِ الجوهريّة، اقترنت أهمية شِعرها بصمتِها وتخليها عن كُلّ ما هو صاخبٌ مُترهّلٌ يحاول لفت الانتباه والأنظار إليهِ بشتّى الطّرائق والمُمارسات، كُلّما كانَ الشّاعرُ صامتًا لا يصدر ضجيجًا أو يفعل جَلبةً لصرف الاهتمام نحوه يصبح شِعره ذا أهميةٍ بالغة شيئًا فشيئًا وكُلّما نزفت القصيدة بالصّمت كبرت في عيون القارئ وتعلّقَ قلبهُ بِها قطعًا.

“يُؤلمكَ أيُّها الصّامتُ أن تتذكرَ/ التّلال العظيمة الّتي اقتحمت السّماء من خلفِكَ/ والرّيح الشّديدة التي استسلمتكَ/ أيُّها الصّمتُ، أيُّها الصّمتُ! دموعكَ تُغرق كلماتي./ أيُّها الصّمتُ، الصّمت، الصّمت! حتّى ينبوع البكاء امتلأَ جدًّا من جديد؟!” قصيدة تكتبها مينيل بشقاءٍ وافرٍ وبحديثٍ مغمومٍ مع الصّمت العميق بعدَ مُناداتهِ مرارًا- بالطّبع- كأنّهُ حوارٌ مع ذاتها المشحونة بالمعنى الرّقيق غير المُنتبهة إلى المُحيط وينبوعه الخطر، النّداء المُتكرّر (أيُّها) هو دعوةٌ تشبه طلب الالتفات هُنا وضرورة لُغويّة شكليّة ومعنويّة باطنيّة في آنٍ واحد، بيد أن الصّمت المُمتدّ يغدو شكلًا مُرَوِّعًا ومَهِيبًا أكثر من أشكال الضّوضاء والفوضى الأُخر ولوحة مُفزعة تجسد الموت وتختلف عن اللّوحات الثّانية إلّا إذا كانَ المرءُ شاعرًا ويصيّرها إلى موسيقى خافتة أحيانًا مثل مينيل الشفّافة والبريئة.

ملحوظة: مقولات الشّاعرة وقصائدها هي مُترجمةٌ بتصرفٍ منّي.