ياسين العطواني
يحتل قطاع التربية والتعليم كمفهوم اهتمام مختلف الباحثين والدارسين في العلوم التربوية، والاجتماعية، والنفسية، ومرد هذا الاهتمام يعود إلى علاقة التربية والتعليم بعملية بناء الإنسان، والكيفية التي يتم بموجبها تكيف هذا الإنسان مع بيئته. وعادة ما تنبثق السياسة التربوية والتعليمية لأي مجتمع من فلسفة العصر التي تعيش فيه، على اعتبار أن هذا الحقل الحيوي يمثل هدفا جوهريا من أهداف المجتمع الحديث، وهو وسيلة وأداة فعالة لتحقيق أهداف أي مجتمع يسعى إلى بلوغ مراحل متقدمة من التنمية
والبناء الاجتماعي والاقتصادي. وفي الحالة العراقية فقد شهد قطاع التربية والتعليم أدوارا مختلفة من عملية البناء والنمو، وكانت عملية التدرج في النمو هي الصفة الغالبة لهذا المرفق الحيوي. وعلى الرغم من التناقضات السياسية والتشويهات الفكرية، التي مر بها العراق خلال العهود السياسية السابقة، إلا أنه ظل يمتلك نظاماً تعليمياً مميزاً، حتى وصف النظام التعليمي في العراق بأنه كان من أقوى وأفضل النظم التربوية والتعليمية في منطقة الشرق الأوسط، فقد سبق إنشاء بعض المدارس والمعاهد التعليمية نشوء الدولة العراقية الحديثة في بداية العشرينيات. وقد بلغ المستوى التعليمي ذروته في العراق في الخمسينيات والستينيات وحتى بداية السبعينيات من القرن الماضي، قبل ان تمتد اليه معاول الهدم، والمتمثلة بسياسة التبعيث، والعسكرة، وعبث الدكتاتور. فقد كان من أبرز المفاصل الأساسية التي استهدفها النظام المباد هو قطاع التربية والتعليم، لعلمه الأكيد بأهمية هذا المفصل الحيوي وتشعباته بين أوساط المجتمع. وقد وضع لذلك ستراتيجية بعيدة الأمد، وبدأ بتطبيق هذه السياسة مع الخطوة الأولى لدخول التلميذ إلى صفه. وحتى بعد عملية التغيير التي شهدتها البلاد، لم توضع ستراتيجية أو رؤية واضحة المعالم للنهوض بالواقع التربوي والتعليمي، واقتصر الأمر على التغيير الشكلي، وعلى ردود الأفعال الآنية تجاه الحقبة الماضية. وأزاء هذه التركة الثقيلة، والتجاهل الذي شهده قطاع التربية والتعليم لعقود، ومن باب أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي، أُعلن مؤخراً عن إطلاق الاستراتيجية الوطنية لتطوير قطاع التربية والتعليم، والتي تمتد حتى عام 2031. ووفقاً للبيان الحكومي فإن الاستراتيجية تسعى إلى رسم خريطة طريقٍ لإصلاح المنظومة التربوية والتعليمية، بما يتطابق مع المعاييرِ الدولية، ورفع جودة وكفاءة النظام التربوي والتعليمي، مع التأكيد على استدعاء التجارب العالمية الناجحة، من دون الاخلال بالمنظومة القيمية الحضارية للعراق، والعمل على وضع نظام تعليمي وتربوي يسهم في ترسيخ مفاهيم التآخي والتعايش والقبول بالآخر. وهنا علينا التوقف قليلاً للتأكيد على بعض الحقائق العلمية والعملية، وطبيعة المعالجات الموضوعية التي يُفترض أن تتضمنها أي ستراتيجية توضع لمعالجة هذه الحقل الحيوي. فمن المعروف أن أي عملية اصلاح لا بد أن تستند إلى أُسس ومبادئ محددة، حتى تأتي بالنتائج التي وضعت من أجلها تلك الأُسس والمبادئ. واذا كانت ثمة أولويات اصلاحية تسبق غيرها، فلا نعتقد من هو أكثر أولوية وأهمية من قطاع التربية والتعليم، على اعتبار أن إصلاح النظام التربوي يمثل حجر الزاوية لأي بناء متوقع حصوله في البلاد. ولا شك ان هذا القطاع الحيوي كان وما زال يعاني الكثير من المعوقات والأزمات.
ما نُريد التأكيد عليه هو ان أي تدهور أو انتكاسة يتعرض له النظام التربوي، سوف ينعكس سلبا على جميع مرافق ومؤسسات الدولة، وبالتالي التأثير السلبي على مستقبل البلاد وآفاق تطورها. لذا فإن الخطوات الإصلاحية، التي يجب أن تتخذ أن تكون على درجة كبيرة من التخطيط السليم، والأهداف الواضحة، ووفق رؤية فلسفية تربوية محددة، مع تعبئة كل الطاقات المادية والفكرية من أجل النهوض بقطاع التربية والتعليم مجدداً. ومن المعالجات العلمية والموضوعيىة التي تتطلبها عملية اصلاح النظام التربوي والتعليمي أيضاً، والتي نراها مناسبة في هذه المرحلة هي، إنشاء جهاز أعلى يضم كبار المعنيين بالشأن التربوي والتعليمي، يتولى أمر رسم السياسة التربوية والتخطيطية، ويضع لها أهدافها وغاياتها. إضافة إلى توفر إرادة السياسية صادقة تتبنى فعلياً وعلنياً الإصلاح وتضعه في قائمة أولوياتها، وتتعامل معه على أساس أنه مشروع وطني تنموي شامل، مع تحفيز وتوسيع مشاركة جميع الفاعلين في إنجاز ذلك، مع التأكيد على وجود فلسفة تربوية مستقلة ونابعة من ثوابت المجتمع، وقادرة على توجيه المشاريع التربوية والتعليمية وفق أتجاهات أكثر دقة ورحابة. مع الأخذ بنظر الاعتبار شمولية وتكامل الإصلاح التربوي والتعليمي، وأن يتضمن جميع عناصر المنظومة التربوية بما يُمكن المؤسسات التربوية من استيعاب جميع المتعلمين للحصول على المعرفة والمهارات الأساسية، لتلبية متطلبات سوق العمل. الأمر الآخر الذي لا يقل أهمية عما ذكر هو إعادة النظر بكل المناهج الدراسية وبأساليب التعليم والنظريات التي تُدرس، ابتداءً من رياض الأطفال وحتى الدراسات العليا، بما يتفق وتأمين مستلزمات التقدم التقني والمادي، وإرساء قاعدة تعليمية متطورة، مع ربط الخطة التربوية بالتنمية الشاملة من خلال تقدير حاجات القوى العاملة في العراق على المدى البعيد والمتوسط، موزعاً تبعاً لقطاعات النشاط والمهن والمستوى التعليمي. وبالتأكيد هذا يتطلب توفير البيئة الملائمة لأركان العملية التعليمية من طالب، وأستاذ، وكادر إداري، وحتى تكون هذه البيئة مُلائمة بالفعل، يتوجب إبعاد الجامعات والمؤسسات التعليمية عن الصراعات السياسية، والحزبية، والمذهبية، ليس على أساس منع النشاطات أو الانتماءات السياسية، ولكن بهدف جعل الجامعات والمؤسسات التعليمية منبراً حقيقياً للجامعات الراقية، التي تريد ان تجعل من نفسها صورة مصغرة لمجتمع متآخٍ، يعتمد الحوار واحترام الرأي الآخر. ومن الفقرات المهمة التي يجب التأكيد عليها في هذا الشأن هو الانفتاح على تجارب الآخرين، وضرورة التفاعل الإيجابي مع الثقافات
العالمية.