ساطع راجي
يبني الحالمون بعالم متعدد الأقطاب فردوسا وهميا عن إمكانية ظهور عصر أكثر سلاما واستقرارا، رغم أنهم يؤسسون هذا الوهم على الاضطراب والحروب التي نعيشها اليوم، ويريدون إعادة تسويق الوهم المستهلك عن «الحرب المؤدية للسلام» في تبرير دعمهم لحرب أوكرانيا، بينما لا تؤدي الحروب إلا إلى حروب جديدة وكوارث، بل إن التاريخ السياسي ينسف تماما فكرة العالم الفردوسي بسبب تعدد القوى الكبرى ويؤكد العكس تماما. غالبا ما كان العالم يعيش حالة من التعددية القطبية، التي هي مجرد ماركة مغشوشة لـ»صراع الامبراطوريات» وتم تقديم هذه الماركة نتيجة لحالة الأسف على انهيار الاتحاد السوفيتي بداية تسعينيات القرن الماضي، وإذا كانت حالة القطب الواحد (النادرة) التي انطلقت منذ ذلك اليوم قد شهدت الكثير من الحروب والأزمات فإنها لا تختلف عن حالة تعدد الأقطاب التي سادت تاريخ البشرية.
إن المتفائلين بصعود أقطاب عسكرية دولية جديدة مثل روسيا والصين، إنما ينطلقون من رغبة حارقة في رؤية الولايات المتحدة، وهي تهزم أو تتعرض لخسائر فادحة دون المبالاة بالنتائج الأخرى للمواجهة، ومنها انتقال الهيمنة على بعض مناطق العالم من قوة عاتية قديمة إلى قوة عاتية جديدة، ولا يبالون بالنتائج الكارثية المترتبة على الحروب الممهدة للتعددية القطبية، وما بعدها وتأثيرها على حياة الشعوب الفقيرة والضعيفة، كما حدث في ارتفاع أسعار الغذاء بسبب الحرب الأوكرانية، ولا يريدون رؤية سلبيات النظم المعادية لأمريكا.
منطقة الشرق الاوسط تحديدا مثال مفجع على الآثار الكارثية، للصراعات الناجمة عن تنافس الأقطاب، وكانت شعوبها مجرد عشب تهرسه الأفيال المتصارعة، سواء في الصراع الفارسي اليوناني ثم الفارسي الروماني، وصولا إلى صراع القوى البحرية الاوروبية في القرن الثامن عشر، ثم التنافس الثلاثي الروسي البريطاني الفرنسي على المنطقة نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بينما أنتجت مرحلة الصراع الثلاثي الشيوعي الرأسمالي النازي بعد الحرب العالمية الاولى ولادة كل الأمراض السياسية المزمنة في الشرق الأوسط، وجعلت من دولة ساحة للمؤامرات والانقلابات والمذابح، وأنتجت أنواعا عدة من التطرف الديني والقومي والطبقي، إضافة إلى مكائن القمع الحكومية المدعومة من الغرب.
إن الرهان الخطير من أجل لحظة شماتة بالولايات المتحدة، وهي تخسر في مكان ما يذكرنا بالرهان على ألمانيا النازية في لحظة شماتة بالغرب الاستعماري، عندما اجتاح هتلر العواصم الأوروبية، وتخيلته قوى وتنظيمات سياسية شرق أوسطية بأنه المخلص، وكانت الحركة العراقية في مايس 1941 واحدة من حالات الأمل الوهمي، التي قادت إلى كارثة متعددة الجوانب يطول تفصيلها، منها فرهود بغداد الذي كان رديفا لهولوكست أوروبا في تبرير الهجرة اليهودية وإقامة الكيان الصهيوني، في حين أن الاجتياح الالماني لأكثر من دولة أوروبية، أثبت أن النازية أشد بشاعة من خصومها السيئين.
في مرحلة الحرب الباردة لم يصطدم القطبان (السوفيتي والأمريكي)، على مدى أكثر من أربعة عقود، لكن الشعوب عانت من حروب دموية بالوكالة وانقلابات ومذابح لا تختلف كثيرا عما سبق، ودفع الشرق الأوسط الفاتورة الأثقل للحرب الباردة، وخاب الرهان الشعبوي الشرق الاوسطي على السوفيت، كما خاب الرهان على النازية.
الأساس في الاستقرار والسلام ليس في هيمنة قطب واحد أو عدة أقطاب، بل هو في رفض الهيمنة الاحادية والمتعددة على السواء ورفض الحرب نفسها ونقد دعاتها، الذين يتمنون حدوث أي كارثة تؤدي إلى خلط الأوراق والسماح لهم بالصعود إلى السلطة والتفرد بها عبر تقديم الولاءات الخارجية كما حدث أيام الحرب الباردة.