يوميَّات عدنان غريفي: مظفر النوَّاب وسلمى الخضراء الجيوسي

ثقافة 2023/06/01
...

  أحمد حيدري 

 نظن أننا وحدنا من عاش هذه التجربة، وحصلنا على ما لم يحصل عليه الآخرون. مع الوقت يتضح العكس تماما لكننا لا نصغي جيدا، لا نصغي لمن حولنا ولا للنصوص وهي تصارحنا. التجربة نفسها التي تناقلها الكثير عن نصوص مظفر النواب وأشرطته المهرّبة، قد عاشها جيل قبلنا، وسبقه جيل. فهمت الآن سبب ضجره وتغيير الموضوع ونظرات التعجب والاستغراب من أسئلة الشباب عن أمور تخصه أو تخصّ نصوصه. حينها وجدت تصرفه خارج عن الأدب ومتكبرا، لكنه شرح بعد سنوات في مسودة يومياته سبب نظرته الاستغرابيَّة وضجره ثم الصمت. ولد عدنان غريفي في المحمرة 2/ 6/ 1952 وتوفي في هولندا 4 مايو 2023. ترجم لعبدالوهاب البياتي وغسان كنفاني وأكثر من سبعين قصة قصيرة لكتاب من العالم العربي. ترقد يومياته ونصوصه في هولندا داخل حاسبوه تأكلها الالكترونات؛ كما قال قبل وفاته.

مسوّدات اليوميَّات

في الأمس ذهبت برفقة جمال، رسّام وشاعر فلسطيني ووائل، رسّام ونحَّات عراقي لرؤية الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب. أعتقد أنه انتهى للتو من أمسية شعرية في لندن وحضر إلى امستردام بدعوة موجّهة إليه من المغاربة المقيمين في هولندا. 

أذكر هنا أنّ مظفر لا يقلّ مكانة عن عبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وبدر شاكر السيَّاب وشعراء العالم العربي المعاصرين. المفارقة الوحيدة التي تجعله مغايرا هو أنّه كلما تطرق إلى قادة الدول العربية، تدخل لغته في الشتم!

بيد أنه وبعيداً عن القادة، كلّ متلقيه يعشقون شتائمه. أذكر في تلك الفترة (قبل الثورة في إيران) كنا نستمع كلّ يوم من إذاعة بغداد لـ (الريل وحمد) ملحمة الحبّ ونضحك مع أبطالها ونشاركهم البكاء. أُنتج هذا العمل الإذاعي الشعبي، قبل أن يقمع حزب البعث الثقافة والفنون الشعبيَّة بصورة كلية. أيضا كان لديَّ كاسيت أو اثنان منه وهي نسخة من أمسيات شعريَّة أقاموها له في دول عربية تقدميَّة نسبيا؛ مثل سوريا وليبيا. نصل إلى قمة المتعة مع انشاده خاصة أمسيته في ليبيا، لأنّه في تلك الأمسية، شتم واستهزأ بباعة فلسطين (حيث وصفها بفتاة عذراء . بالطبع كان نصّه الشعري قبل أيّ شيء شعرا، ثمّ وثيقة سياسيّة راقية.  

موعد في مقهى بالي وسط امستردام. أذكر هنا أنّ المقهى مكان تجمع المثقفين ومحبي الفنّ الهولنديين. بقرب المقهى ثمة صالات تُقام فيها برامج ثقافية. بالنسبة لي اللقاء في أقصى حالات الفتنة. سأرى شخصا يحبّه الجميع تقريبا، سوى القادة. فيما بعد أوضحوا لي أنّ أمسياته الشعرية تقام على قدم وساق في دمشق وعواصم عربية أخرى. كانت مثل مباريات كرة القدم. 

لا تقبل ملحمة الريل وحمد الترجمة، لأنها باللهجة العراقية. جرّ الشعر من قلب لغة الناس. 

في كلّ بيت من القصيدة ثمة ذكرى وإشارة وكناية، وهي إشارات ترقد في عمق روح الفرد العراقي. ومن حيث أنّ لهجة أهل “خوزستان” تشبه تقريبا لهجة أهل البصرة، فالناس على معرفة بروح اللغة معرفة كاملة، خاصة القرويين العرب والطبقات التقديمة في المدينة. 

على فكرة أمضى مظفر فترة في إيران مسجوناً ولذلك هو يجيد القليل من اللغة الفارسية. كان مظفر مثل الكثير من الكبار بسيطا وشعبيا. أقصد إذا لم تعرف أنه الشاعر الذي يدخل مستمعيه إلى الجنون، لظننت أنك تجالس موظفا عاديا. 

في اللقاء الأول لم نعرف في الواقع من أين نبدأ. حتى بادر صديقي الرسام الفلسطيني بمساعدتنا. بدأ بتقديمي. أنا شاعر وكاتب ومترجم وأنشد الشعر باللغة الانجليزية والفارسية و.. فجأة، ولكن بكلّ هدوء، قال مظفر النواب أنّ سيدة عراقية في لندن قد ترجمت بعض نصوصه الشعرية إلى الانجليزية. “لو كان لديك الوقت ألقي عليها نظرة”. قلت له يشرفني وسأقوم بالأمر. في اللحظة نفسها أخرج الترجمات من حقيبته وسلمها لي. ألقيتُ عليها نظرة. توصلتُ إلى أنّ الترجمة ليست سيئة، ولكن يمكنها أن تكون أفضل. “طيب كيف تراها؟” قلت: “جيدة”. ابتسم مظفر وأطرق رأسه. ثمّ رفع رأسه ونظر إليَّ ولم ينبس ببنت شفة. حتى تدخل جمال وقال: “حين يقول عدنان إنّها جيدة، يعني أنّه يمكنها أن تكون أفضل”. ابتسمت أنا هذه المرة وأطرقت رأسي. تقرر أن أعيد ترجمتها. قلت: “بشرط أن تريها لزميلتي العراقيَّة”. قال مظفر بكل طيبة: “هي ليست مترجمة محترفة، أحبت شعري وترجمته. ولكني أترك الأمر لك”. 

ترجمتُ شعره بشهيَّة مترجم وفي موعدنا الثاني في ذات المقهى قرأت له الشعر. “كم هي جميلة لهجتك البريطانية”، قال مظفر. أطرقت رأسي وسكتّ. لم تصل علاقتنا بعد إلى مرحلة إخباره أني أعشق اللهجة البريطانية وفي المقابل لا أودّ اللهجة الأمريكية. بيد أني لم أتحمل وقلتها له. مظفر رغم حيائه (وقد أثار فيَّ العجب كيف يمكن لشاعر شجاع مثله أن يكون على هذا القدر من الحياء) يحدث أن ينطلق بالصراحة، نظر إليّ بابتسامة عريضة وقال: “لو قرأ لك والت وايتمن أو ألن غينسبرغ شعرا هل ستصرُّ على كره اللهجة؟” خجلت وأطرقت رأسي. قال: “ولكني أيضا أحب اللهجة البريطانية أكثر”. لم يودّ أن أخجل أكثر، بالتأكيد أنه... امتدح صوتي. قلت كانت أمنيتي أن أصبح مغني أوبرا. لم يساعدني أحد. حتى أنهم لم يساعدوني للمشاركة في صفوف محمد عبد الوهاب الموسيقية في مصر. أسرتي دينيّة وفيها علماء... قاطعني: “من أيّ أسرة أنت؟” أخبرته. يعرف أسرتي جيدا. لقد عاش فترة في مدينة المحمرة. يعرف عمي الساكن في البصرة وهو مجتهد وبعد وفاة عمّي الآخر وكنت أحبه جدا، جاء من العراق وأخذ مكان عمي. الخلاصة يعرف أسرتي جيدا. لقد أُعجب بترجمتي. “لديَّ اقتراح”، سكت للحظات ثم ابتسم وأكمل: “من المقرر أن أقرأ نصوصي الشعريَّة في الإذاعة؛ بالطبع باللغة العربيَّة. ما هو رأيك أن تقرأها مترجمة إلى الانجليزية. في النهاية لدينا غير العرب أيضا”. قال جمال: “رائع... والهولنديون يتقنون

الانجليزية”. 


ليلة لا تُنسى

وجدت الأمر لافتا. امتلأت الصالة بالعرب المقيمن في هولندا ورافقت الشاعر مجموعةٌ من لندن. وكان ثمة عرب آخرون. ما رأيته في تلك الليلة وشدّني أنّ مظفر قبل بدء الأمسية دخل إلى غرفة وبطقوس تشبه الطقوس القدسيَّة أخذ يشرب الخمر. احتسى نصف ساعة بكلِّ هدوء. قال: “عليَّ أن أعدّ نفسي”. 

إلقاء مظفر للشعر لا يوصف؛ لا يقرأ الشعر، إنَّه يمسرحه. بعد أن ينهي القصيدة بالعربي، أقرأ ترجمتها إلى الانجليزية. كان البث مباشرا. تصلنا بين فترة وأخرى أخبار أنّ إلقاء الشعر الانجليزي قد لفت انتباه كُثر. “في الواقع لقد حيوك أكثر منّي”. أطرقتُ رأسي. لقد أظهر مودة لي، لأنَّ الأمر لم يكن كذلك. كانت ليلة باهرة. 

أعتقد بعد سنة ذهبت إلى الإمارات. حضرتُ برفقة أحد أقاربي ندوة للدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، الشاعرة والناقدة الفلسطينية المعروفة. كانت ليلة أنيقة في فندق أنيق. حاضرت السيدة الجيوسي محاضرة مهمة؛ بالطبع لا تقارن محاضرتها أبدا مع مقدمتها المتألقة على الترجمة الانجليزية “الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث” وأستقبل بترحاب وسط قرّاء الانجليزية. كانت محاضرة جيدة رسميَّة أكاديميَّة. واضحة ومفيدة. بعد انتهاء المحاضرة خصص وقت لطرح الأسئلة وقد طرح بعض الشباب حادي المزاج أسئلة ولو كانت أعمارهم أكبر لما طرحوها. 

ليس في كتاب الدكتورة الجيوسي إشارة إلى نصوص مظفر النواب. لم يكن مظفر النواب يكتب الشعر الشعبي فقط. شعره الفصيح أكثر بكثير من شعره باللهجة العراقيَّة. شعرتُ بالقهر، رغم ذلك وددتُ تقديم نقد مؤدب لها، بالطبع ليس مثل أسلوب الشباب. حين العشاء اقتربت منها، قدّمت نفسي لها وقلت أكتب الشعر بالإنجليزية والفارسية. لقد قرأت كتابك واستمتعت به كثيرا، ولكن...”.  نظرت إليّ متوجسة. قالت بكل طيبة: “ولكن ماذا؟”، ولكني كم أنا آسف حين لم أجد أيَّ نصّ شعري للشاعر العراقي الكبير”. حدّقت فيَّ. أظنّ أنَّ عينيها امتلأت بالدموع. “مَن.. تقصد مظفر؟” أيدتها بهزة من رأسي. كنا نتبادل التحديق. ابتسمت ابتسامة حزينة؛ حزينة وواضحة. “أنا أيضا آسفة.. جدا”. ودخلت في صمت. ثم أضافت بكلّ أريحيَّة: “ولكنك تفهم، صحيح؟” قلت: 

“أفهم”. 

جاءت إلى الإمارات لأخذ المال من الشيوخ لكتابها الجديد. أحسست بهذه الالتزامات في عمق روحي. أعرف أنّها تضحي بصورة ما. “مظفر حبيب الشعب وهذا يكفي”. قلت: “لا، لا يكفي... ولكن... أنا أفهمك”.

في اليوم الثاني ذهبت إلى متجر كتب “ميدان جمال عبد الناصر” في دبي، تعمدتُ أن أسأل بائع الكتب عن كتب مظفر. واضح جدا أنه لا يريد الإجابة عن سؤالي. ذهبت إلى الطابق الثاني واخترت بعض الكتب. فجأة وجدتُ بائع الكتب بجانبي يبتسم لي. “أنت لا تعيش هنا؟” قلت: “لا، أعيش في هولندا”. سأل: “هل أنت عراقي؟” قلت: “لا أنا إيراني”. قال: “عرفت. أنت من عربستان؟” عرفت ما يرمي له: “هذا هو الاسم القديم لمنطقتنا. بات اسمها الآن خوزستان”. قال: “أها...” سكت ثمّ قال: “ولكن لهجتك عراقيَّة... على أية حال لا تبحث عن مظفر. تعرف أنّ الشيوخ...”. “الحقيقة لا أذكر أنّ الشيوخ يكرهونه. لم أظن أنّ الرقابة هنا تمنعه”. قال: “ليست رقابة... ولكن، أنت تفهم...” قلت: “نعم أفهم، رغم

ذلك...”.

إنّه لأمر غريب. رغم أنّ مظفر النواب محبوب القرّاء والمستمعين، لا نجد كتبه في الأسواق. لم أفهم الأمر بصورة دقيقة حتى الآن. ليتني ألتقيه في طريق العودة إلى هولندا، وأستفسر الأمر من هذا الشاعر الجوّال.