الديوانيَّة .. زهرة الفرات وعطر الذكرى

ثقافة شعبية 2019/04/23
...

 زهير كاظم عبود
 أيُّ سرٍّ يكمن في عشقنا للديوانيّة؟ الحنين الذي لم تغيّره سنين الاغتراب والقحط، والأيام المرة والمالحة التي لم تغيّر طعم حلاوتها، ولا رائحة تراب أزقتها الفقيرة، ولالون سواقي الماء الخارج من بيوتها والذي يشطر شوارعها الضيقة، ولا بيوتها الواهنة المتعبة المتكئة على بعضها، ولا حيطانها الملطخة ببقايا الشعارات السياسية، المحبة التي ما فترت تجيش في الروح لا يغيرها الزمن ولا تضعفها   الأيام.  كيف يمكن للذكريات التي ترسمها المخيلة عن المدينة الصغيرة والحلوة والفقيرة أن تترسّب في قيعان الروح فلا تغادرنا؟ 
نستعيد منها زمنا جميلا كان فيه الناس يعرفون بعضا، ويحبون ويحترمون بعضا، كانت للكبير مهابة وقيمة اجتماعية، وكان الشباب على اختلاف أفكارهم وتوجهاتهم السياسية والثقافية يلتزمون بقيم اجتماعية صارمة، مدارسها التي تمتلأ بنا محطات تتحدى الزمن يقودها رعيل من المعلمين والمدرسين ممن حفروا أسماءهم في الذاكرة، وتركوا بعدهم تاريخا لايمكن تجاوزه أو نسيانه
، أجيال من الطلبة الذين كبروا وعبروا الى الزمن الجديد لم تزل الديوانية منقوشة في عيونهم وقلوبهم، ولم تزل كل القيم التي غرسها جيل المعلمين والمدرسين والمربين تسيطر على أيامهم وبيوتهم. تغيّرت الخارطة لكن المدينة ازدادت شحوبا وفقرا، لا الحكومات التي تعاقبت عليها منذ عهدنا الملكي وعهود جمهوريات الانقلابات وصولا الى الزمن الديمقراطي الجديد، كلها لم تعر للمدينة أي اهتمام، ولم تلتفت الى صورتها ولا واقعها، وهي مدينة لا تتشابه مع كل مدن الله، تحتوي على معادن نفيسة هي أسماء علماء وكتاب وسياسيين وشهداء وفقراء يخفون جوعهم وسط الكتب القديمة والصفحات الممزقة، تنتهي نهاراتهم تحت مصابيح الشوارع الباهتة التي تضيء عتمة الليل لإنجاز مطالعاتهم وتحضيراتهم للامتحانات الوزارية، عوائل تعيش تحت رحمة خيوط الدخان الأسود المنبعث من فتيلة المشعل الضوئي الزجاجي والفوانيس العتيقة، يرتوون من قطرات الماء المتساقطة من زير الماء الفخاري ليتجمع زلالا باردا، وفقراء يطفئون حرارة أيامهم اللاهبة في كركرات شط الديوانية الصغير، وهو يجلل هامتها الى نصفين كلاهما مبعث فخر وقصص لا 
تنتهي.  أيُّ سرٍّ يكمن في تلك البيوت الفقيرة التي تتكدّس بها أحياء العصري والجمهوري والخصيمة والجديدة وأهل الشط والسوق والفاضلية والسراي والعروبة؟ فتشكّل لوحة متجانسة في قيم أهلها وانسجامهم وتعلّقهم ببعض
، وعودتهم الى تلك الأزقة التي لم يبدلوها رغم تغيّر الزمن والحكام. أي بهاء تجده في محلة صوب الشامية والضباط والخزاعل والجزائر وحي المعلمين ورمضان 
والمحطة؟ 
كيف نصف شعورنا بأنفاسنا وسكون أرواحنا حين ندخل بيوت الحاج جعفر الكعبي وصاحب عكموش وبيت كاظم شنين وسلمان الجبار وعطية ابو دخن وسيد علي الفؤادي وبيت سيد عباس الزاملي وبيت فيروز ومحمود الكببجي وبيت الحاج هندي وبيت حبيب الخزاعي وبيت الحاج شاكر حسن 
الحلاوي؟ 
من أين نأتي بمثل حمادة ختلان وعبدعلي ناجي الحداد ويحيى الصياح وكاظم الكرادي وعبد الزهرة غضبان وعبد الرحمن الخزاعي ورسمي كاظم وحزام عطية وهاشم الاعرجي؟ 
من أين نستدل على من بقي من بيوت البوغنام والبو كندلة والبو عبد عيسى التورنجي وبيت محمود التميمي وبيت عكلة ابو هادي وبيت الشيخ راجي الحاج جلاب وبيت عبود المغفي وبيت مظلوم ابو الكعك وبيت كميل ظاهر وبيت سيد يحيى الفؤادي وجبار الأصفر وغيرهم مما لايتسع لها 
الورق؟ 
كيف يمكن ان نتعرّف على تلك البيوت التي ربت وأسهمت في بناء قيم وتاريخ تلك المدينة التي كان اسمها زهرة الفرات؟ وكيف يمكن أن ترسّخ تلك الوجوه الشعبية الفقيرة التي تملأ الأيام صخبا وفرحا
 وضحكا؟ 
كيف ننسى هادي حلواص وعربانته المتنقلة والدكتور شناوة بشاربه المتميز وعبدالله بإطلاقه الضحكات وهو يبيع اللبلبي وعبد الحسين مني وهو يغرف لنا بكرم يفوق غيره من مرطباته المتميزة وكاظم الحمرة وهو يدفئ أرواحنا (بالحريرة الصباحية) وحلاوة الداطلي حين يحمله حنش 
سلام؟ 
كيف يمكن أن نستعيد نقرات الطبل التي يطلقها العم (عنبر) والد خضير يصاحبه هادي الحديدي وهو ينقر بإيقاع يخلب العقل على آلة الطبلة السومريّة الصغيرة على أبواب البيوت في العيد أو في مناسبات الفرح؟ كيف لنا أن نلمَّ الناس الذين ما عرفنا عن أديانهم ومذاهبهم الا في هذا الزمن بعد أن تشظت الأرواح وانشطرت النفوس وتفرّق الجمع؟ 
كيف نقنع أخوتنا المندائيين وهم منغرسون في أرواحنا ويستنشقون من تراب الديوانية متميزين في التعليم والصياغة وفي نشاطهم الوطني ان يعودوا الى حضن الديوانية فيعود حزام عطية ومطر ملغوث ولؤي زهرون وعواد حاتم ومظلوم خسارة وخالد ناجي الى 
حضنها؟ 
وكيف نقنع أخوتنا اليهود أمثال بيت قوجمان وساسون معلم وبيت الياهو وناجي نوري وسالم حسقيل من أنهم معجونون بتراب العراق والديوانية خصوصا، ولم تزل حكاياتهم وبيوتهم مزارا ومنارا يذكره أهلها الطيبون مرارا في كل 
زمان؟ 
وكيف يمكن أن نعيد أخوتنا المسيحيين أولاد ميخا سعدي وباسم وعائلة الدكتورة ماهي كجه جي والأستاذ كيورك وعائلة حبيب توما وفكتور وعائلة أبو عامر وجميل أسمر وطلال قونجا وهم يزرعون طيبتهم وأناقتهم ومروءتهم بين محلاتنا وشوارعنا ونوادينا فيصيروا جزءا من هذه المدينة التي تبدو باهتة دون ملوحتهم 
وحضورهم؟ 
وهل يمكن أن نعيد للذاكرة بنايات السينمات التي ضمّتنا وعرضت علينا أجمل الأفلام العربية والأجنبية؟ لن ننسى العم الراحل خنياب ولا إبراهيم الأعور ولا كامل خنطيل أو كاظم نوروز ولا السينما الصيفي التي تعرض دون سقف في الصيف، ولن ننسى تلك المنشورات الجميلة التي نجمعها بشغف وبعناية بعد ان توزعها عربات الدعاية للأفلام.