تجلّيات

ثقافة 2023/06/03
...

 رحيم رزاق الجبوري


لا أعرفُ من أين جاءتني هذه القدرة العجيبة؛ على الإحساس بالأشياء، والجمادات، والتعايش معها؟

في تلك السنين المريرة الّتي عشناها، وَنَحْنُ نصارعُ الحياة ونخوضُ معها معارك شرسة؛ من أجل الحصول على لُقمةٍ سائغةٍ، نسدُّ بها جوعنا الكافر!

اعتدتُ -ولستُ وحدي- على ارتداء ملابس مُستعملةٍ.. راجتْ رواجًا كبيرًا -وقتذاك- بسبب الظرف الاقتصاديّ الصعب؛ الّذي مرَّ به البلد.. وانعكسَ سلبًا على القدرة الشرائيّة للمواطن.

فقامتْ بيني وبين تلك الملابس والأغراض؛ علاقة قويّة وحميميّة. فحين لبستُ - ذاتَ يومٍ- قميصًا جميلًا؛ شعرتُ بإحساسٍ غريبٍ تملّكني. وانتابني نوعٌ من العظمة، والسموِّ، والارتياح. تَرَاءى لي أنَّ الرداءَ يعودُ لرجلٍ ثريٍّ؛ قَضى ليلة حمراء مع معشوقته!

استهوتني الفكرة كثيرًا، وذهبتُ -بعدها- لشراء حذاءٍ رياضيّ، كان مُعلّقًا على الجدار، من قيطانه الطويل، وفوقهُ صورة مزركشة للرئيس المُفدّى! 

انتعلته برفقٍ، فلمْ يستجبْ، ونفرَتْ قدمي منه؟ تيقّنتُ أنَّ صاحبهُ كان رجلًا مقعدًا، فقدَ ساقه في أحد الحروب القذرة!

سريعًا، رحتُ لحزمة الأقلام الملوّنة الّتي اقتنيتها بعناية. حاولتُ - جاهدًا- الكتابة والرسم بها.. لكنّها تأبى التصاق أناملي بها؟

حتمًا، إنّها كانتْ لكاتبٍ، أرادوا شراء قلمه وضميره.. لكنّهُ رفضَ الانصياع والخنوع لهم!

اعتمرتُ تلك القُبّعة الرماديّة اللّون. التفَّ رأسي معها، وشعرتُ بدوارٍ غريبٍ. يقينًا أنَّ صاحبها كان يفكّرُ كثيرًا بكرويّة الأرض!

سَالَ لُعابي على دُميةٍ جميلة، وضعتُ يدي عليها، احتضنتني بغنْجٍ مفرط!

كان الّذي اقتناها بعنايةٍ شديدةٍ -ولَمْ يدفعْ ثمنها بالكامل- أرادها هديّة لنجاح ابنته الصغيرة، لكنَّ قذيفة هاون تائهة؛ سقطتْ على منزلهم الآيل للسقوط!

هرعتُ - مذعورًا- للجانب الآخر من السوق، واستغربتُ من وجود كوفيّة بالية، بين تلك المواد. وضعتها على رأسي؛ شعرتُ بالجوعِ والعطش. وبدأَ صوتٌ جميلٌ يخترقُ أُذنايَ؛ وهو يُهلّلُ، ويُسَبِّحُ، ويُصلّي لله. كانتْ هذه الكوفيّة؛ لرجلِ دينٍ عصاميّ قلَّ وجوده!

أدمنتُ على هذا المنوال، ورحتُ -لاهثًا- أبحثُ بشغفٍ كبيرٍ عن أماكن أخرى، تبيعُ هذه الملابس. وأستمتعُ أكثر؛ وأنا مغمضُ العينين مُتحسّسًا جمال، وألم، ومعاناة الأصحاب الأصليّين لتلك الأشياء.

لكنَّ صندوقًا خشبيًّا، كان مرميًّا في آخر ركنٍ من أحد المحلّات المنزوية. علاماتُ القِدَمِ واضحة عليه. التقطتهُ - برفقٍ- من بين هذا الركام. 

لا أعرفُ ماذا دهاني؛ ارتجفتُ فجأةً، وشعرتُ بقشعريرةٍ اخترقتْ جسدي، الخناجرُ والسكاكين تُقطّعُ أوصالي، الثعابينُ والذئابُ تُحيطُ بيَ من كلّ جانبٍ.. 

أصابني الهوانُ والتعبُ، وانهالتْ دموعي بالسقوطِ مدرارًا مدرارا!

الشيءُ الوحيد، من بين جميع الأغراض الّتي اقتنيتُها سابقًا؛ وكنتُ متلهّفًا لمعرفة سرَّه الدفين، هو ذلك الصندوق العجيب؟

فتحتهُ، لأرى ما فيه؛ وإذا به يُخبّئ بين زواياه المُظلمة: "عَلمَ بلادي" الّذي كان مرميًّا مع الأغراض والحاجيّات المستهلكة!