النصُّ الأدبيُّ وأدواتُ الكتابة

ثقافة 2023/06/03
...

  محمد صابر عبيد

يحتاج النصّ الأدبيّ في حالة إنجازه وتكوينه البنيوي إلى شبكة أدوات تتلاءم مع طبيعة النصّ أجناسيّاً ونوعيّاً، فكل جنس أو نوع أدبيّ له أدواته الخاصّة التي لا يمكن إنجازه من دون حضورها بقوة وفاعليّة وأداء نوعيّ خاصّ، لذا فإن هذه الأدوات ينبغي أن تحضر بأعلى كفاءتها ليكون بوسعها الإسهام في إنتاج النصّ الأدبيّ بسويته العالية المطلوبة، وإلا من دون توفر الأدوات الكاملة في درجة عليا من درجات الكفاءة والإتقان فإن النصّ الأدبيّ يسقط في هاوية القول العابر الذي لا قيمة له.

يعلو النصّ الشعريّ بأدواته النوعيّة أكثر من بقية الأجناس الأدبيّة لما يحمله من خصوصيّة تعبيريّة وتشكيليّة شديدة الدقّة والإتقان والخيال، وهو نصّ عَصيّ على النجاح إلّا في حدود ضيّقة جداً لأنّه يحتاج إلى أدوات تقانيّة صرف من جهة، وأخرى تتعلّق بالمفهوم الخاصّ بالشعر وعلاقته بالخيال والعاطفة والمعنى الشعريّ ومفردات إضافيّة من جهة أخرى، بمعنى أنّ الأدوات التقانيّة المطلوبة على أهميّتها لن تكون كافية لصوغ نصّ شعريّ عالي المستوى وإنتاجه على النحو المطلوب جماليّاً.

ينتمي النصّ القصصيّ بأدواته المعروفة إلى فنّ السرد القائم على مجموعة تقانات سرديّة أتت عليها نظريات السرد ونظّرت لها كثيراً، لكنّ هذا النصّ الأدبيّ هو الأقرب إلى فنّ الشعر من حيث التركيز والتكثيف والتدليل والترميز، وهو بحاجة إلى الأدوات التقانيّة بقدرٍ كبيرٍ على أن تحضر أدوات أخرى غير تقانيّة قريبة من تلك التي يحتاجها النصّ الشعريّ، غير أنّها تتعلّق أكثر بنظم الصوغ وحساسيّات التشكيل التي تحقّق أعلى درجات التوازن بين عناصر البناء القصصيّ، في حين تتّسع هذه الدائرة السرديّة عندما يكون الحديث حول النصّ الروائيّ وأدواته للفرق التقانيّ والتشكيليّ بينها وبين القصّة القصيرة، على الرغم من أنّهما تنتميان إلى عائلة سرديّة واحدة من حيث طبيعة الأدوات التقانيّة العامّة الخاصّة بعلم السرد.

تنفتح الرواية على مساحات تقانيّة أوسع وأقلّ تركيزاً وتكثيفاً من القصّة القصيرة، لكنّها تحتاج أدوات أكثر غزارة ممّا تحتاجه القصّة القصيرة في ميدان الإجراء السرديّ التفصيليّ، فالمساحة الكتابيّة لها أدواتها الخاصّة بالفضاء السرديّ الواسع في استدعائها للزمن والمكان والشخصيّات وغيرها استدعاءً كليّاً وشاملاً، إذ تشتغل الأدوات السرديّة والوصفيّة والحواريّة على نحو معمّق ومفتوح ومتكامل بما يحقّق الجدوى الكتابيّة لطبيعة الأدوات، وهي أدوات سرديّة مصمّمة على العمل بأعلى كفاءة ممكنة لتسيير عناصر التشكيل الروائيّ على سكّة الكتابة نحو أمثل صورة، ومن ثمّ وضع كلّ حدّ سرديّ من حدود الرواية في جهته الصحيحة كي تحيط بالنصّ الروائيّ من جوانبه كافّة، للوصول إلى تشييد الهيكل العام للنصّ فضلاً على حمولته السرديّة بمختلف أشكالها وألوانها وتفاصيلها المتحرّكة داخل هذه الحدود.

يختلف النصّ السيريّ وأدواته عن النصوص الأخرى بحكم طبيعة وسياسة النصّ السيريّ بأنواعه السيريّة المختلفة، إذ هو بحاجة إلى أدوات سرديّة مختلفة عن القصّة والرواية لأنّه يروي أحداثاً سيريّة لها علاقة بحياة الراوي شخصيّاً في السيرة الذاتيّة، وحياة الآخر في السيرة الغيريّة، وثمّة مرويّات سيريّة أخرى تستدعي أدوات مغايرة تتلاءم مع كلّ نوع سيريّ وتستجيب لمعطياته الفنيّة والجماليّة، ضمن مجموعة من المقاصد الرئيسة تذهب باتجاه تدوين سيرة حياة كاملة في نوع السيرة الذاتيّة والسيرة الغيريّة، وأجزاء وكِسَر من السيرة في الأنواع الأخرى المحايثة لفنون أدبيّة أخرى.

يمكن في هذا السياق النظر إلى النصّ النقديّ بوصفه نصاً مغايراً للنصوص الإبداعيّة السابقة لانتمائه إلى فضاء نصيّ آخر، وله على هذا النحو أدواته الخاصّة ذات الطابع المنهجيّ العمليّ الإجرائيّ القادر على تمثّل الرؤية النقديّة والاستجابة لما تتطلّبه من أسلوبيّة كتابيّة، وهو ما يمكن تطبيقه على نصوص أدبيّة أخرى مثل النصّ المقاليّ وأدواته والنصّ الخاطراتيّ وأدواته

وكذلك النصّ المفتوح الحرّ وأدواته، هذا فضلاً عن نصوص في علوم إنسانيّة أخرى وحتّى علوم صرفة تحتاج طبيعة نصوصها الكتابيّة إلى أدوات خاصّة، تتفاعل وتتلاءم وتتعاطى معها على وفق رؤية تنتهي إلى خطاب يصل إلى مقاصده بأسهل وأيسر وأغنى الطرق.

تتطلّب هذه الفنون الإبداعيّة جميعاً موهبة في كلّ فنّ -لا بدّ منها- كي يتمكّن صاحبها من الولوج في ميدانها الكتابيّ المخصوص، لكنّ الموهبة وحدها لا تكفي من دون توفّر الأدوات الكتابيّة الصالحة للانتقال من منطقة الموهبة "الضروريّة جداً" إلى مساحة الكتابة، ولا يكفي توفّر الأدوات على الصعيد التقانيّ المعروف والمتداوَل فحسب؛ بل يجب شحذ هذه الأدوات باستمرار وتطوير أدائها الفنيّ والجماليّ والموضوعيّ باستمرار، لأنّه بلا أدوات قابلة للتطوير دائماً لا يمكن ضمان بلوغ المرحلة الكتابيّة الأمثل على مستوى الأسلوب والتشكيل والتداول، ولعلّ الاكتفاء بالموهبة وحدها ينتهي بها بعد حينٍ ليس طويلاً إلى مكبّ 

النفايات عندما تستنفد ما لديها من قدرات ثمّ تموت.

يستحيل على النصّ الأدبيّ أن يبلغ منصّة الإبداع الحقيقيّ بلا أدوات مشحوذة جيّداً وفاعلة على نحو أصيل، فالأدوات هي الوسيلة الأكيدة التي لا وسيلة سواها لتحويل الفكرة عن طريق الموهبة إلى قصيدة أو قصّة قصيرة أو رواية أو غير ذلك، لذا على المبدع أن يولي أدواته العناية الأكبر في أعلى درجاتها؛ كي يكون قادراً على الاستمرار في تحويل أفكاره وتجاربه وتشوّفاته وأحلامه إلى نصوص إبداعيّة كبيرة تعيش طويلاً.