الشاعر المفقود.. رواية الابن عن فجيعته

ثقافة 2023/06/04
...

  باسم عبد الحميد حمودي
          كاتب هذه الرواية هو الدكتور نصير علي الحسيني، والكاتب مهندس معماري معروف، وله دراساته في فنون العمارة العالميَّة واهتمام خاص بتاريخ العمارة البابليَّة، وقد كتب الكثير من الدراسات عن تطور الفكر المعماري في العالم. هذه الرواية تصور حياة والده الشاعر المعروف علي الحسيني الذي أقتيد عنوة وهو كبير السن إلى أحد قواطع الجيش الشعبي في مدينة (الحلة) ونقل إلى الكويت أيام احتلالها السوداء، حيث واجه (وهو الشاعر الرقيق ذو التوجه اليساري الرافض ذهنياً ما يجري على الأرض) عسف الذي أخذوه وسط التهديد إلى الكويت وواجه القوات الامريكية- وهو لا يقوى على  قتال يحسه غير صحيح وغير مبرر ومتكافئ..
فانسحب مع آلاف الجنود ورجال الجيش الشعبي الذين اقتيدوا من كلِّ أرض في العراق ليواجهوا القوات الدوليَّة التي امتلكت الذريعة لغزو العراق واحتلاله.. أثر العدوان على الجارة الكويت.
تأتي هذه الرواية التي كتبها ابن الشهيد الشاعر عن حياة والده منذ الطفولة حتى استشهاده غريباً في أرض لم يكن يحب القتال فيها، بل كان ينشر في صحفها ومجلاتها أسوة بعشرات الكتاب والشعراء العراقيين يوم كانت الجيرة أساسا للعلاقة الطيبة التي دمرتها مخططات رأس النظام العراقي السابق والمجموعة التي تعاونت معه - وسط قصر نظر سياسي وقومي مريعين- حيث سوّلت له شخصيته السايكوباثية الأنويَّة لاحتلال دولة عربية جارة وسط دهشة العرب وسخطهم وقوى العالم وغضب الأحرار.
كان طبيعياً أن تتحشد القوى العالميَّة الرافضة للاحتلال، وأن تجد الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها الفرصة مثالية لسحق العراق وتدمير مظاهر الحضارة والتقدم فيه بعد أن أعطت القيادة العراقيّة النابليونيّة الحق لهذه القوى بدخول العراق واحتلاله بعد الغزو.
كان نصيب مئات الألوف من الشباب العراقي الذي كان منخرطا في الماكنة العسكريّة هو القتل أو التشويه الجسدي، وكان مصير آلاف الكهول والشيوخ الذي اقتيدوا قسراً في قواطع الجيش الشعبي هو الموت أو الأسر أو التشويه الذهني والجسدي نتيجة القتال غير المتكافئ.. وكان علي الحسيني الشاعر واحداً من هؤلاء.
 إنَّ رواية (الشاعر المفقود) التي دوّنها نصير الحسيني عن حياة والده جاءت جهداً مشتركاً بين الشاعر الشهيد وولده.. كيف ذلك؟
 استعان الروائي بجمال لغته وبما يتذكره من تفاصيل عن حياة والده المعلم الشاعر والسجين الشاب ونضالات الصبا وأحلام القرية والمدينة، فضلاً عن قصائده التي اقتطعت الرواية أجزاء مهمة منها لتشكل أجزاء من مسار الرواية السردي.
واكب شعر علي الحسيني تفاصيل فصول الرواية المدوّنة عنه، نتج عن ذلك صورة باذخة لجمال السرد وحسن الأداء في ثنايا بناء تاريخي لأحداث عراقيّة تاريخيّة رافقت حياة الشاعر الشهيد. صنع الروائي مجرى السرد بلغته الشفيفة الواضحة المنحدرات وعلى لسان الشاعر الشهيد باعتباره راوياً عليماً يروي المادة السرديّة ببساطة الحكي المنفتح على حياة ضاجة بالتعب والتثقيف الذاتي ومراقبة حياة الآخر الذي تعايش معه.. الابوين والاخوة  والمدينة (المدحتية) وتاريخها الشعبي كمدينة للامام الحمزة التي ترتفع قبته الخضراء وسطها وتجمع الزوار من كل أرض حولها منذ أن كان اسمها (سوراء).
فصول الرواية تأخذك ذكريات الشاعر لطفولته وشبابه ولتأملاته في السياسة وتاريخ السجون وقهر الإنسان لأخيه الإنسان لتكتشف معه أن أول سجن نشأ كان في وادي الرافدين قبل ظهور كلكامش، وغربة كلكامش بعد موت انكيدو كانت غربة إنسانية متعبة دعت صديقته (سيدوري) صاحبة الحانة إلى التمتع بالحياة ونسيان الموت وتفاصيل السلب الدامية استمرارا في تقبل الخير الذي يأتي.
 كتب الحسيني روايته على وفق طريقة السرد المتصل الذي لا تقطيع فيه سوى التقطيع الذهني المرسوم روائيا حيث يتنقل الروائي بين فكر الشاعر الشهيد وتأملاته وسيرورة الأحداث وحركة العمل الدرامي.
وإذ يأخذ تاريخ السجن صفحات تأخذ شهور الاغتراب في قرية (خيكان) المواجهة لمدينة الإمام القاسم جزءا من التجربة المرة التي عاشها الشاعر شابا في التاسعة عشرة من عمره مطارداً من قبل السلطة لمشاركته في التظاهرات ضد الحكومة وهو طالب في الصف الأول من دار المعلمين فيها عام 1953.
 كان انتهاء الاختفاء أمراً محتوماً وكان السجن مصيرا للشاب الشاعر وحرمانه من دراسته، وفي السجن تعلم الكثير من تجارب المناضلين ومن ايذاء زبانية السجن ومن احترام السجناء الآخرين الذين كانوا يجدون في سجناء الرأي باعثا للاحترام والتقدير بإحساسهم الشعبي العالي الجميل.
يقوم انقلاب 14 تموز 1958 ويطلق سراح الشيوعيين والبارتيين والناصريين وتقوم في البلاد مسحة من الحرية وصراع القوى السياسية وينتهي ذاك بقيام انقلاب 8 شباط الدموي وقتل آلاف الناشطين اليساريين وسجن آلاف مؤلفة منهم.
 الروائي يروي تفاصيل حياة الشاعر وسط فصول من تاريخ العراق الدموي حيث يقاد الشاعر من صفه ومدرسته واطفاله الى قاطع الجيش الشعبي بعد غزو الكويت، ليكون رجال هذا القاطع ممن أخذوا قسرا من كبار السن وغير المنتمين للحزب الحاكم.
ويكون العدوان على العراق ردّاً لدخول الجيش العراقي أرض دولة جارة، وقد استغل الامريكان والانكليز مظاهر الاحتلال للقسوة في معارك الضد التي ابعدت القوات العراقية عن الكويت.. لكن طائرات التحالف صبت حممها على من لم يستطع الانسحاب بسرعة من كبار السن من رجال الجيش الشعبي، فضلاً عن آلاف الجنود الذين فروا إلى الصحراء بين البلدين الجارين.. حيث قامت الطائرات برميهم والدبابات بسحقهم وكان الشاعر الحسيني واحداً من هؤلاء الرجال الذي استشهدوا قسراً، ولم يعثر على إثر مادي له ولأمثاله.
يقوم الروائي بسرد لحظات الموت التراجيدي على لسان الشاعر الذي فُقِدَ فيقول:
لا أدري كيف يُفكّر الطغاة أو ينامون الليل لكنهم في كل الأحوال منحرفون، ولا ينتسبون إلى صنف البشر.
حين وقعت الهزيمة بكيت على وطني وجيشي.. تصور سنوات، ونحن نغني للوطن ونحلم ونناضل. دخلنا السجون وذقنا التعذيب.. بعد كل ذلك وقعت الهزيمة.
والهزيمة هنا ليست هزيمة معركة بسبب حماقة حاكم فرد فقط، بل هزيمة أجيال بنت العراق الذي حطمته غباوة دكتاتور.
ويصور الروائي لحظة الاستشهاد بالقول (ص159):
(الحدث قد حدث بانفصال الروح عن الجسد بصورة سهلة جداً ومريحة وغير مؤلمة، وكأنك خرجت من عنق زجاجة كنت مسجونا بها.. كأنك صحوت من غفوة أو قيلولة.. كم كانت الحياة معقدة وطويلة وفيها الكثير من العذابات).
ها نحن في روضة هادئة جداً لا ندري ما بعدها.
وينتقل بنا الرائي من تدبّره لأحاسيس الشاعر الراحل إلى انتقالات الروح من باب إلى آخر مصوراً طواف الروح على جثة الشهيد وقيام فرق خاصة بجمع الجثث المتناثرة وسط الصحراء لدفنها في مقابر جماعيَّة.
تبقى أرواح الأجساد التي لم تدفن بعناية هائمة مدة طويلة، لكن الروائي يقول على لسان الوالد الراحل: (لن يستطيعوا العثور على جثتي وستبقى روحي هائمة على هذا النحو) ثم يصف واديا نزلوا فيه في الجنة فيقول: (الوادي الذي يجمعنا عبارة عن روضة من الجنان. فيه مرابع وارائك للراحة.. والغريب أن كل هذه الملايين الموجودة في هذا الوادي تجيد لغة واحدة وتعيش في غاية من السعادة) ص165.ثم يقفل الرواية على نص يقول: (تقضي الوفود المقبلة الى هذا الوادي مدة أربعين يوماً تذهب بعدها عبر بوابة ضخمة إلى وادٍ آخر.. ونبقى نحن أصحاب الأرواح الهائمة إلى حين لا مناص منه).
هكذا تبقى الروح الشاعرة شاهدة على جريمة العصر باغتيال روح شعب والعدوان على شعب وضياع أرواح وجسوم وبشر وموات ضحايا فهم خاطئ للقدرة البشرية، حيث سعت هذه المرة إلى خسارة تاريخيّة وإنسانيّة كبيرة تمثّلت بالسماح للقوى الكبرى باستباحة شعب جار حاكمه عليه وعلى جاره، وكان من نتائج الجور هذه الرواية التي تصور مأساة مبدعٍ ضاعَ في متاهة الحرب واكتوى
بنارها.