رعد أطياف
علمتنا تجارب الحياة حقائق ثمينة منها، أننا نرتب سجل أولوياتنا كالتالي: الانشغال بما لا يعنينا حد الاستنزاف، هروباً من معاناتنا الشخصية، واحتيالا على شاهدنا الداخلي، ومن ثمّ الإجهاز على مصادر المرح. يمكننا أن نتذمر حول عادات الناس وسلوكهم الأخلاقيّ تجاه الآخرين، أما أمراضنا المستعصية وعاداتنا المتأصلة فهي في حل من هذه المسائلات، ومنها فقدان مصادر المرح وجفافها. إن أحكامنا تجاه الآخرين تغدو سريعة وخاطفة ومحفوظة عن ظهر قلب،
طالما نستثني ذواتنا ونشعرها بالتميّز بوصفها أكثر أهمية من الآخرين، وبوصفها تميل إلى النزوعات الحزينة.
في حين ستعزز فينا روح العدوانية لو تجرأ أحدهم في استفزازها أو الكشف عنها.
إنها تميل الأنا ستر عورتها بأي ثمن كان من خلال الكم الهائل من التبريرات.
لأنها لا تحب الظهور بمظهر العدم بقدر ما تريد الظهور بمظهر الوجود.
لكنه وجود زائف.
لا وجود لأي نقطة مرجعية يمكن أن تنبع منها الأنا فهي عبارة عن تيار مستمر من الإدراكات، التي ترتبط أحداها بالأخرى لتشكّل ظاهرة ما.
وبغية عدم الكشف لهذه المكيدة تدافع الأنا عن وجودها الزائف - اللا جوهري- التراجيدي، من خلال التمركز على نفسها.
هذا التمركز يكبت الغرائز ويكثّفها ويرميها بفضاء أسود حيث لا مكان للعثور على متنفس، يمكن من خلاله رصد هذه الأنا وتحولاتها المتدفقة ومرحها المكبوت.
من خلال الفلسفة الشرقية نعثر على ان الانا مجموعة تكتلات ترتصف في ما بينها لتشكل تلك الأنا، وهذه الأخيرة متشظية من هذه الناحية.
إلا أن المثير في هذا الصدد أن هناك راصدا عميقا لا يتأثر بفعل الأنا وتمظهراتها، ويبقى في حلٍ من هذه الدفق الهائل من الأفكار ويصطلحون عليه مفهوم "الوعي"، ذلك الوعي يمكننا العثور عليه من خلال الانتباه للأفكار، وعندها سنحصل على مسافة بين الأفكار والوعي؛ بين الوعي بوصفه مرحا مطلقا، وبين تقلّبات الأنا الحزينة والمؤلمة.
يمكن تحصيل هذه اللحظة عن طريق التأمل، مثلما تؤكد الفلسفة الشرقية، والتأمل هو حالة حضور الوعي منتبها وراصداً، ومن خلال الاستمرار بالتأمل، سنرى أن الأفكار انفصلت عن الوعي، وسنشاهد تيارها المتسارع ونحصل على نوع من الثبات والهدوء وراحة البال والانفكاك من تلك النزوعات الحزينة، لكون الافكار كانت ملتصقة وتفعل فعلها بمشاعرنا السامة؛ مشاعر الألم والأسى.
إن الأنا تلعب دور الشرطي في ذاكرتنا المعطوبة وتمنح لنفسها معطيات كما تشتهي، وتجعلنا جديين أكثر كمدّرس عمومي.
على سبيل المثال، حتى الضحك تبديه لنا وفقاً لمعاييرها المجحفة، حتى أننا نختار ما نضحك عليه طبقاً لإرادتها؛ نضحك على بعض الحركات والانفعالات والعبارات دون غيرها.
لدينا الكثير لنضحك عليه ونهزئ به، لكن تجاهل الأنا المستمر وتقنّعها الذي يستر مخازيها ويعمّق صيرورتها يحد من مساحة المرح الحقيقي، ولكي تحافظ على تدفقها المزيف تمنحنا بعض من فتات الضحك على بعض الحذلقات أو الإيماءات والرقصات والهذيانات.
هذيانات الأنا هي مصدر ضحكنا، نعم هي مصدر ضحكنا شرط أن تبقى هي تحفل بربوبيتها سيئة الذكر.
نحتاج إلى "فلسفة مَرِحَة"، لنحفر في أخاديد الذاكرة ونقبض على ما تبقى من فنون الضحك.
تبعدنا هذه الأنا الجبانة من الضحك على قصة الوجود، الضحك على الولادة والشيخوخة والممات، الضحك على لحظات الخوف، وما علينا إلا بتلك الضربة الاستباقية الموجعة، وهي الضحك على الأنا نفسها! على الأقل سنجفف مصادر التراجيديا التي يحفل بها الكيان البشري، بسبب الأنا وتوهمها المستمر بأهميتها القصوى مقارنة بالآخرين. لكن لهذه الأهمية ثمنا باهضا: استلب منها كل مصادر المرح.