بداية الرحلة

ثقافة 2023/06/05
...

  سمير اسماعيل  


لاهثًا يدخل المحطة وحقيبته الكبيرة تزحف خلفه، وانفاسه المتقطة تتعبه لضيق صدره وصعوبة التنفس، جلس على المقعد الوحيد المهشم نصفه، واتكأ رافعا بيده قنينة دفعها الى فمه وضغط على فتحة صغيرة ليتنفس، كان يعاني من مرض الربو الذي استشرى في صدره منذ كان طفلا صغيرا، اكتشف بنظراته المكان هامسا: 

ــ لم يحن موعد وصول القطار.

وحده من دخل المحطة في هذه الساعة من الفجر، لم يقترب منه أحد لمساعدته، رغم إرهاقه الشديد والإعياء اللذين يحس بهما من ثقلهما، فلا أحد يعرف ما تحويه حتى هو فقد أعدتها زوجته للرحلة إلى العاصمة لإكمال معاملة التقاعد، مسح العرق عن جبينه بمنديله الأزرق، وفرك عينيه بكم القميص، ثم حدق بقضبان السكة الحديدية السوداء وطبقة من الصدأ تغطيهما، رآهما يتواريان نحو البعيد هناك في نهاية امتداد نظره، استرخى على المقعد واغمض عينيه..

ـــ متى سيصل القطار.

جاءه الرد من صوت بعيد.

ـــ لا تتعجل سيصل القطار، سيصل في زمانه المحدد.

فتح عينيه ملتفتا يمينا ويسارا لم يجد أحدا، وكان الصمت يخيم على المكان، وليس هناك أي نأمة لاي صوت حتى العصافير غائبة عن الأشجار عبر السكة في الجانب الآخر للمحطة، أشجار لا أوراق فيها تصطك الريح بين أغصانها اليابسة، والحشائش مصفرة ميتة، الحجارة بين قضبان السكة، قذرة مسودة من الزفت وممتلئة بالأوساخ وأكياس النايلون والقاذورات وبقايا الحيوانات.

بحث في جيوبه حتى وجد بطاقته، ابتسم وأعادها إلى مكانها.

ــ سيأتي القطار حتما وهذه البطاقة تثبت ذلك وتخولني ركوبه.

   أحس بالراحة وان الوقت ما زال مبكرًا لوصول القطار.

ـــ سأحاول النوم لحين وصوله وبالتأكيد سيوقظني بصوته القوي، الذي يدوي عند دخوله للمحطة، لكن لا أحد من المسافرين، ربما أتيت مبكرا.

         أغمض عينيه على أمل أن ينام لكنه سمع الصوت مرة أخرى. 

 ــ اترك حقيبتك وادخل لصالة الانتظار لتنام هناك، لان وصول القطار قد يمتد لساعات، وربما لأيام، خاصة أن السكة قد اصيبت بعطل في منتصف الطريق.

لم يلتفت للصوت وكأنه لا يسمع شيئا، مستعيدًا يقظته الداخلية من غفوته، متلذذا بشعور حواسه بالإمساك بيده المقطورة للصعود وأخذ مكانه. قد يحدث ذلك في المرة القادمة متمتعا بأحلام بدأت تسيره نحو رغبتها، بحكم أن القطار لم يصل لحد اللحظة، أحلام هزيلة بمحتواها من الاحداث ماعدا انسجامه مع حركة القطار، الذي سيحقق له سفرة العاصمة ليتجول عبر طرقات وأزقة المدينة المجهولة، وقد يكون ذهب اليها في طفولته، ثمة من يشخر هناك وراء ذلك العمود الضخم الذي ما زال منتصبا يقاوم الزمن.

نهض من مكانه، راوح بسيره، ثم عاود الجلوس على المقعد والعمود وراء ظهره قد تقشر لونه وأسود.

هل سيكون الركاب قربي قبل وصول القطار، ستمتلئ المحطة بأجساد نساء واطفال وشيوخ، وربما بعض الرجال المعاقين، لأن الآخرين، قد غادروا في القطار إلى الحرب، الاصوات تعلو، إنهم يتحدثون، يصرخون، الباعة يقتربون يتجادلون، والأطفال يركضون مثيرين ضجة بين المقاعد، الكل سيسافرون والبقية سيودعون المسافرين، وستفرغ الصالة إلا من سيدة عجوز، تركت عكازها وغادرت الدنيا، وثمة شيخ بجانبها يحاول ايقاظها فلا تستجيب، فيصرخ طالب النجدة. صرخته ايقظتني لأجد نفسي تحتضن نفسي على المقعد المحطم نصفه. هل كانت حاجتي للحلم كي أقضي وقتي منتظرا القطار. لكن لم أجد فيه حبيبين يتبادلان القبلات قبل الوداع، بل أشباح ما زالت تحوم حولي في المكان. فعلا كنت بحاجة لكي يرافقني الحلم ليمنحني معنى لحياتي الماضية. لم يعد للصبر مكان في رأسي ونظراتي تعانق وجه الشابة القادمة نحوي، بطول قامتها ووجهها المشرق بالبياض، وعينيها الزرقاوين وأنفها الصغير وفمها حبة الفستق المفلوقة باحمرار شفتيها.

 ـــ مرحبا  

صوت موسيقى يعزف لحنا صباحيا يملأ المكان؟ خفق قلبه بشدة قبل أن يجيبها، التفت اليها رأيت تغيرات في الوجه والجسد. وكأنما تفقد صفات من هيكلها الكلي.

ــ ألم يصل القطار بعد. آسف مرحبا  

ـــ الجميع ينتظر وصوله بتأفف لتأخره اليوم وأكيد سيصل بالوقت المناسب. 

         اقتربت منه حتى كاد جسدها يدخل جسده على رصيف المحطة الخالي من البشر سواهما، تخبط بحركته والتقت عيناه بوجهها الذي بانت عليه ملامح الشيخوخة بسرعة حركة القطار فتشكلت لديه رؤيو مخيفة، وحاول الابتعاد عنها والخوف يكبر في رأسه، غاصت في جسده حتى التلاشي، ولم يبق منها سوى ظل اختفى أيضا بعد أن كنسته هبة هواء، أخذت معها بقايا أوراق أشجار غير موجوده وثمار تركت في أماكنها على الرصيف من الأشجار اليابسة. ما زال الخوف يسري في بدنه ليسمع من جديد صوتا من أعماق بعيدة.  

 ـــ لا تنتظر فالقطار ما زال يعبر الوديان والسهول ليصل إليك وحدك.

ـــ اذًا سأتأخر عن موعدي.

ـــ ربما 

أجابه الصوت الذي لا يراه، سوى سماعه يخترق أذنيه، كأنه قادم من مجهول خارج المحطة. 

ـــ من أنت 

ـــ أنا صوتك الداخلي  

ـــ صوتي ما هذا الجنون  

ـــ نـعم.. ألم تسمعني اخرج من أعماقك لأحدثك...؟  

ــ اذًا قل متى سيصل القطار.؟ 

ـــ عليك الانتباه لأن القطار سيصل في أية لحظة.

ـــ كيف...؟ والقضبان قد علاها الصدأ والحركة على الأرض جامدة، فلا أحد قد وصل المحطة غيري وكل شيء هنا قد تيبس بفعل الخراب.

ـــ لا يهمك ذلك فنحن الآن في العام 2050 وكل شيء تحول إلى مادة صناعية، فمثلا القطار الآن يتوقف في محطات البيوت  

ـــ ماذا تقصد؟  

ـــ أن السبب بعدم وجود الركاب يعود لوصول القطار الى دورهم ومن هناك يركبون القاطرة. لان القطار يعمل تحت الأرض في نفق طويل جدا، وعند وصوله لاي محطة ستفتح الأبواب وينزل من ينزل، ويركب من يركب خلال دقيقة واحدة فالسرعة مهمة في الوقت الآن.  

ـــ كيف حدث ذلك وما زالت المدينة في الساحل الايمن ينتشر فيها الخراب ودمار البيوت من الحرب، وها قد أحلت على التقاعد حسب القانون الجديد وسأركب القطار إلى العاصمة لإكمال معاملة التقاعد. 

 ــ انك تنسى الأيام والساعات والسنوات، وأنت قد ركنت روحك في البيت بعد التقاعد، لقد عبرنا السنوات، ونحن الان نستقبل صعود رائد للفضاء من مدينتنا، ألم تتجول في المدينة الجديدة والجسور بالعشرات على دجلة والعمارات الشاهقة على حافته، بدلا من تلك البيوت المهدمة في قليعات ومناطق الايمن التي سحقتها الحروب.

ـــ هذا التطور موجود في البلاد المتقدمة كالصين واليابان مثلا، وكما يسمون اليابان من كوكب آخر.. اما بالنسبة لوصول القطارات إلى البيوت وايصال الطلاب الصغار، فموجود في الصين منذ زمن بعيد، وكما رأينا ذلك في التك توك والتلفاز.

ـــ ونحن كذلك قد وصل تطورنا لأبعد من ذلك فلماذا هذه الحقيبة الكبيرة.

ــ الحقيبة فيها جميع احتياجاتي للسفر والإقامة في العاصمة.

ـــ أنت لا تحتاج لذلك لأن كل ما تحتاجه الآن متوفر في الفنادق الكبيرة، من مأكل وملبس وتلفون وانترنت وشاشات عملاقة في الشوارع والمتنزهات الكبيرة المنتشرة في كل شارع، فلماذا تحمل نفسك ثقلها؟ 

ـــ لا أصدق ما تقول...؟ 

بل هذه هي الوقائع فلا يغررك ما ترى في المحطة ومخلفاتها، فقد تركت شاهدا على الحرب والدمار، الذي أحدثته الصواريخ والقنابل وذكرى للأجيال القادمة، وشاهدا على كل حرب مر على المدينة.

ـــ هذا غير حقيقي، إنه خيال تفرضه على ذاكرتي واعيشه الآن.  

ـــ بل حقيقة وسترى ذلك بنفسك، سيصل القطار بعد دقائق وعليك الاستعداد لذلك.

 ما زال الصمت يكتنف المكان عندما فتح عينيه باحثا عن الصوت والقطار والمسافرين، نهض من مكانه لم تكن المحطة، سوى ركام من حجارة والصدأ قد اصاب كل شيء، ولا أثر لأي قطار أو قاطرة، كان الخراب يعم المكان، وفوضى الكلاب والقطط تزدحم في الصالة الممتلئة بالأزبال وبقايا الحجارة من اثار القصف، الذي مرت عليه عشرات السنين، دون أن تمتد يد لإعماره مجددا، سمع ضجة تحت قدميه وصوت صافرة القطار. سحب حقيبته فقد توقف القطار وفتحت الارض، لتظهر القاطرة بكاملها على سطح الأرض وينزل منها الركاب، اندفع بسرعة ليركب وفجأة وجد نفسه يطير في الهواء، ويسقط مع حقيبته في حفرة كبيرة ممتلئة بالماء والطين، احدثتها قنبلة ذكية خلال خراب

المدينة.