ثنائيَّة الـ {هنا} والـ {هناك} في مسرحيَّة {التخته}

ثقافة 2023/06/05
...

 عبد علي حسن

 * تتجلى أهمية نص العرض المسرحي في قدرته على إثارة الأسئلة، وفق سياقاته السمعية والبصرية واللغوية لتأثيث منظومة جمالية ومعرفية، لا تتوقف عند حدود محلية الوقائع والأحداث، بل تتعداه لتتمدد على أكبر مساحة شمولية تحايث وضعاً إنسانياً، وبذلك سيساهم نص العرض المسرحي هذا في صياغة الخطاب الفني المؤثر في تكوين الوعي، لدى المتلقي الذي يستنفر جميع حواسه لاستقبال خطاب العرض.

  ووفق ما أشرنا إليه آنفا تسعى العروض المسرحية الرصينة إلى مخاطبة الكل عبر خصوصية الجزء، كما في نص العرض المسرحي (التخته)، الذي قدمته فرقة مسرح الخشبة/ نقابة الفنانين في بابل يومي 26و27/ مايس/2023 في فضاء مسرح النقابة، وهو من تأليف وإخراج الفنان مهند ناهض الخياط وتجسيد الفنانين حسنين الملا بدور الأب، ويوسف السياف بدور الشاب وأصيل العساف. 

بدور ساعي البريد، وبما أن المخرج هو مؤلف النص، فإن هنالك رؤية واحدة لم تتشكل عبر تأويل النص من قبل المخرج، وانما توفرت وجهة نظر واحدة متطابقة لا تقبل الذهاب بالنص المؤلف إلى رؤية أخرى تجافي أو تتقاطع مع رؤية المخرج، لذا فإن مقاربة موجهات نص العرض المسرحي، ستضع في الاعتبار وحدة وجهة النظر، التي حرصت على ولوج واحدة من المشكل المعاصرة التي تعاني منها المجتمعات وهي مشكلة الهجرة من الوطن الأم وأن اختلفت دوافعها، فأنها في المحصلة النهائية محاولة لإيجاد طريقة عيش جديدة تخلّف وراءها العديد من فواعل القهر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ولا شك بأن وضع كهذا يسهم في تخليق بنية الفقد المؤقت أو الدائم في تركيبة المجتمع، وأزاء هذا الفهم فإن المعالجة الدرامية لمشكلة الهجرة، اتجهت صوب تخليق عناصر التقاطع والمجابهة من طبيعة التضاد الحاصل بين شخصيتين العجوز والشاب من جهة وشكّلا جبهة الـ (هنا) وفواعل الهجرة من جهة ثانية، وشكلت جبهة الـ (هناك)، فالرجل العجوز يعاني من انقطاع اخبار ولده، الذي هاجر من مدة طويلة، بحثاً عن حياة أخرى، وشكّل هذا الانقطاع هاجس قلق وريبة لدى الأب، أما الشاب الواقع تحت طائلة الفاقة والحرمان والبطالة، فهو الآخر يحاول بشتى السبل الاتصال بإحدى شركات التشغيل خارج الوطن، إذاً فالاثنان الأب والشاب ينزعان لتحقيق علاقة ما بالهناك، ولعل القراءة السيسيويدسيمائية هي الأقرب لمعاينة موجهات العرض المسرحي، الذي عمد مخاطبة مرجعية المتلقي عبر جملة من العلامات الراكزة في المخيال الجمعي، فكانت (التختة)، وهي علامة تمتلك دلالات متعددة، لعلّ أقربها إلى موجهات العرض هي دلالة الانتظار، إذ امتلكت هذه العلامة حضوراً توافق كثيراً مع الحالة الدرامية، التي كان يعيشها الأب والشاب، خاصة بعد تدخل (الداتوشوب) في خلق مشاهد وبيئة جميلة متوافقة بين الشخصيتين اللتين كانت هذه (التختة) تجمعهما في أحايين كثيرة، فالأب ينتظر رسالة من ولده، والشاب ينتظر جوابًا من شركات التشغيل، وواقع الأمر فإن سبل الاتصال مع الـ (هناك) منقطعة، إلّا أن كلًا من الأب والشاب، قد اختلقا وسيلة تخفف من عبأ الانتظار، دون أن يعلم أحدهما بما فعله الآخر، لتوكيد الفعل الإنساني بين الشخصيتين، فالشاب يؤلمه ما وصل إليه الأب من حالة اليأس والقنوط، لانقطاع أخبار ولده، فيلجأ إلى كتابة رسالة مفتعلة على أنها من ولد العجوز، لخلق حالة الرضا والاطمئنان لدى الأب، الذي هو الآخر يكتب رسالة مموهة على أنها من احدى شركات التشغيل، ويضع فيها شروطا صعبة التحقيق لثني الشاب عن اتخاذ قرار الهجرة الموروث لحالة الأذى النفسي والاجتماعي، الذي عاشه الأب وخَبِر عواقبه، إلّا أن هذا الوهم يسقط عند دخول ساعي البريد، الذي يحمل رسالتين الأولى الى الأب والثانية الى الشاب، إلّا أن ما يثير استغراب الأب والشاب معاً هو مغايرة خط الرسالتين عن سابقتها، التي أرسلت إلى الأب من قبل الشاب وإلى الشاب من قبل الأب، ليكتشفا أن الرسالتين السابقتين، كانتا موهومتين، وأن كلاً منهما قد كتبها الأب والشاب، وعلى الرغم من هذه اللعبة كانت بحاجة إلى مفارقة لكشفها إلّا أن المعالجة الدرامية لحل هذه الإشكالية كانت ضعيفة، ولم تمتلك قدرة الإقناع، إذ لجأ المخرج إلى دفع الشخصيتين إلى إجراء مقارنة بين خط الرسالتين الأخيرتين بخط الكلمات، التي سبق وأن كتبها كلٌ من الأب والشاب على خشبة التختة، فقد كانت هذه المقارنة ضعيفة وبحاجة إلى معالجة أكثر دقة واقناع، فقد كانت نهاية العرض معتمدة على ما أنتجته تلك المفارقة، إذ أسقط في يد الأب أن ولده لم يعد له وجود دون أن نعلم ما تضمنته تلك الرسالة، كما أسقط بيد الشاب بعد أن عرف بمصير الابن لينثني عن قرار الهجرة، لقد كان على المخرج أن يعتني بوضع معالجات درامية لهذا المشهد الاخير الذي كان عليه وضع النقاط على الحروف بشكل أكثر اقناعاً، دون أن يضع المشاهد بمنطقة مرتبكة البناء الدرامي اعتمدت على الإيحاء، الذي دعمه المخرج بجملة من الأفعال والحوارات بين الأب والشاب لتأكيد بنية الوهم، ووضع الحل الأمثل والمنطقي لهذا التقاطع، بين الوهم والواقع الذي واجهه الأب والشاب من قبل ساعي البريد، الذي كان ضحكه المتواصل دليل السخرية من الوضع، الذي يعيشه الأب والشاب .  لقد أسهمت المنظومة السينوغرافية المتمثلة بأكوام الرسائل، التي غطت أرضية العرض المسرحي والمكان المركزي للتختة، وجمالية تنفيذ الإنارة والبيئة، التي خلقها الداتوشوب والتمثيل الجيد والمؤثر لكل الممثلين، خاصة اداء الفنان حسنين الملا، كل ذلك قد أسهم في تخليق خطاب جمالي ومعرفي مؤثر اغتنت به ذائقة المشاهد، في حين عانت المؤثرات السمعية الممثلة بالموسيقى التصويرية من أحداث تأثير سمعي جمالي مؤثر بسبب من عدم مناسبة الموسيقى للحالات الدرامية التي عالجها المخرج، فضلاً عن ثقل حضورها الطويل نسبياً في زمن العرض المسرحي مما سببت بوجود فائض كان من الممكن اختزاله وتكثيفه واستبداله، بما ترسخ في المخيال الجمعي من أغانٍ وموسيقى مرتبطة بالشجن العراقي .

  لقد تمكن نص العرض المسرحي بما تهيأ له من منظومة سينوغرافية وتأثيث خطابه المعرفي والجمالي المكوّنة لوجهة نظره، المتمثلة في إدانته لما تؤول له ظاهرة الهجرة عن الوطن، وما تشكّله من تهديد لتماسك البنية الاجتماعية وضياع الأبناء في دهاليز الغربة وما تسببه من ظواهر أبسط ما يقال عنها بأنها من أسباب الإحباط على المستوى النفسي والاجتماعي، فضلاً عما تسببه هذه الظاهرة من ألم الفقد بالنسبة للآباء والأبناء على حد سواء، أقول على الرغم من الهنّات التي رافقت العرض المسرحي، والتي لم تؤثر كثيراً في المحاولة الصادقة لتأكيد وتوصيل وجهة نظره ورؤيته لثنائية الـ (هنا) والـ (هناك)، بعدّها بنية مركزية لنص العرض المسرحي، ألّا أنها لم تدخل إلى مناطق أكثر عمقاً لفهم وتفسير ظاهرة الهجرة، فأكتفى نص العرض المسرحي بمسّ الظاهرة من الخارج،ولم تمكّن المتلقي في تفعيل منظومته المرجعية للوصول إلى مغزى المعاني الصريحة التي ضمتها خشبة المسرح.