ذكريات الزنازين في {اثني عشر عاما من الظلام}

ثقافة 2023/06/05
...

علي حمود الحسن
كم ألهمتنا ثورات اميركا اللاتينية وحركاتها اليسارية في سبعينيات القرن الماضي، نحن المهوسين في العدالة الاجتماعية، لاسيما "التوبا ماروس"، الذين كانوا يستولون على البنوك ويوزعون الأموال بين الفقراء، كانوا يواجهون الطغمة العسكرية وظلالهم من (CIA) بالاغتيال والخطف والضرب "بالرأس" لإسقاط استبداد العسكر، على الرغم من العنف، لكنهم كسبوا تعاطف شعب الأوروغواي وتعاطفنا، حتى أننا كنا نتداول كتاب ريجيس دوبريه "نحن التوباماروس" كمنشور ملهم..  الحركة التي تلقت ضربات قاسمة، وأطيح بزعمائها وأعضائها قتلا وسجنا، هي بالضبط محور حكاية فيلم "اثني عشر عاما في الظلام" (2018) للمخرج الأوروغوايّ ألفارو بريشنير، الذي كتب سيناريو الفيلم مقتبسا حكايته من كتاب {ذكريات الزنزانة" لموريسيو   روسينكوف أحد أبطال القصة الحقيقيين، الذي وثق  مكابدات وأحزان وصمود ثلاثة من قادة الحركة، اختطفهم العسكر كرهائن من سجنهم، ليقضوا في غياهب أربعين سجنا سريا ومعلنا اسوأ ايام حياتهم، يحاول سَجَّانوهم سحقهم إنسانيا، وتعريضهم لأبشع أنواع التعذيب والقسوة؛ فهم معزولون لا يرون ضوءًا، ولا يتحدثون إلى احد، ولا يقرؤون، أو يكتبون، وحينما يناشد أهلهم الرأي العام، أو المنظمات الإنسانية، فيحصلون على زيارة ذويهم، وربما يحضون بلقاء مع ممثلي الهلال الأحمر بوجوههم الزجاجية، فيشرفون على الجنون، يقول ضابط شرطة: "إن لم نستطع قتلهم..فسندفعهم إلى الجنون".

 ثلاثة سجناء رفاق مسيرة؛ موريسيو روسينكوف (شينو دارين) شاعر وكاتب وثق لجحيم الزنزانات، وخوزيه موخيكا (أنطونيو دي لاتور)، المناضل الذي يتحمل صنوف العذاب غير المتوقع، ويكاد يفقد عقله لولا إرادة اسطورية، وتشبث بأمل وإن كان بصيص ضوء في ظلام معتم - سيكون أشهر رئيس جمهورية انساني زاهد ومتواضع - والثالث ناتو (الفونسو تورت)  الرياضي الجميل سيكون وزيرا للفاع في ما بعد، هذه الاحداث العصية على التصوير سينمائيا، لأنها صورت أصلا في اقبية وزنازين، فضلا عن معظم شخصياتها ما زالت على قيد الحياة، لكن   بريشنير اعتمد معالجة سردية ملحمية حرة، فثمة اللقطات القريبة لوجوه هؤلاء المعذبين، فضلا عن كاميرا محمولة صورت أروقة الزنازين الكابية والموحشة من دون اضاءة، إلا في بعض المواضع، لا خطوط سردية متراتبة، إنما انزياحات زمنية من خلال العقول الحية لهؤلاء المناضلين الصامدين.. وسط أجواء كابوسية وتوحش سجانيهم، اذ استعاضوا عن كل هذا الحرمان، بابتكارات تشير إلى أملهم بالخلاص، ملتجئين إلى الخيال  لتحطيم الجدران، والانعتاق إلى عوالم الحرية، فساحوا في جولات مع احبابهم، وتماهوا مع نداء الطبيعة، قدم هؤلاء الممثلون أداءً اسطوريا بسلاسة، وبلا تكلف وبصدق يكاد يصل إلى حد التوحد مع الشخصية، وكل هذا لم يكن ليحدث، لولا المونتاج الخلاق والمبتكر، فثمة انتقالات إلى الخلف وأحيانا إلى الأمام، فضلا عن رهافة الربط بين كابوسية السجن ورحابة الحياة، ونجح المخرج بتجنب الوقوع في التقريرية السياسية مركزا على الجانب الإنساني لهؤلاء الثوار الأفذاذ.