عدنان الصائغ: حياتي في شعري.. وشعري في حياتي

ثقافة 2023/06/06
...

 حاورته: حنين صباح

شاعر الوطن المؤثث بالمنافي، والمنفى المأهول بالحنين إلى طين الوطن، تأبط وطناً وانسل من خوف المقاصل وعذابات الموت الجماعي وزنازين الاعترافات القسريَّة، متوجهاً شطر الشمال، حيث لا شيء سوى الضباب والصقيع والأزهار الغريبة التي لم تألف سحنة السومريين، كما تأبط منفاه عائداً للوطن الذي لم يعد كما تركه، فلا "شعرها الطويل" يترك ضوعاً على سلالم الجريدة، ولا "جسر الكوفة" يحفل بالأغاني، ولا ظلال "نصب الحريَّة" تسمح للمنتظرات بأنْ ينثرن الشوق الممنوع على الرصيف. عدنان الصائغ، صوت الوطن بموال المنفى، وأنين المنفى في حنجرة الوطن، وهكذا بين الحنين والخوف، بين الفزع من المكان والشوق إلى ضفاف الأنهار، بين التوجس المشوب برائحة شواء اللحم البشري في أتون الحروب، وسواتر الموت الوحشي، وبين صمت الدروب الأجنبيَّة التي لا يؤنسها سوى لحن قيثارة غجري وكركرات السائحات الثملات، تحملنا قصائده عبر الأمكنة، فتحولها إلى فضاءات مشحونة بالخوف، الرهاب، الفزع، لا الحنين والشوق والتأسي.
 ما المكان الأثير لدى عدنان الصائغ؟
- بشكلٍ عام: أمام رفوف مكتبة، أو اِنسراح بحر، أو ترنيمات حديقة، أو مقهى على رصيفٍ ضاجّ. وبشكلٍ خاصٍ؛ في العراق: جسر الكوفة، ونصب الحريَّة، وضفاف دجلة، ومقهى أم كلثوم وحسن عجمي، وشارع المتنبي.
في منفاي اللندني: مكتبة الشعر على ضفاف نهر التايمز، المكتبة البريطانيَّة، وتيت مودرن  Tate Modern، وحدائق الهايدبارك Hyde Park.
مردّداً دائماً مع المتنبي: "وخير جليس في الزمان كتابُ"، ومع دوستويفسكي: "باستثناء القراءة، ما كان لي من مهربٍ آخر أستطيع اللجوء إليه".

 وما المكان الذي يجلب لك ذكريات مؤلمة ومخيفة حتى هذه اللحظة داخل العراق وخارجه؟ وأين يمكن أنْ نجدَ هذا المكان في قصائدك؟
- في العراق: سواتر الحرب والخنادق وأرتال المصفّحات العسكريَّة ومنابر الخطب السياسيَّة والاجتماعيَّة والدينيَّة، وذلك الإسطبل الرهيب في قرية "شيخ أوصال" في السليمانيَّة. وتجدين ذلك بشكلٍ مكثّفٍ في دواويني: "نشيد أوروك"، "غيمة الصمغ"، "سماء في خوذة"، و"العصافير لا تحب الرصاص"..، أما الأماكن خارج العراق فهي: نقاط التفتيش على الحدود بين البلدان، وكذلك الأنفاق المظلمة الضيقة والسقوف الواطئة.

 هل تحتوي مطولتك الجديدة (نرد النصّ) على صورٍ كابوسيَّة للمكان كما في مطولتك السابقة (نشيد أوروك)؟
- لقد حمل النرد الكثير من أصداء الماضي وهلعه وتوجّساته وكوابيسه، كان محاولة لمحاججة تاريخنا والدين والسياسة والمجتمع وغير ذلك. تاركاً للنرد أنْ يشقَّ مساره إيقاعاً وصوراً، في شكلٍ مختلفٍ ومضمونٍ جريء، لابتكار نصٍ جديدٍ يختصر تاريخ الألم الإنساني. إنَّه حرثٌ شعريٌّ في المسكوت عنه، في متون وهوامش الحياة والنصّ.

 لماذا تخاف من هذه الأماكن التي تصورها في شعرك؟
- سأروي لكِ هذه الحكاية كما دوّنتها في شهادتي الشعريَّة التي افتتحتُ بها المجلد الأول من "أعمالي الشعريَّة": "ذات يومٍ من نهارات الحرب الهادئة نسبياً، ألقى فوجنا الثالث أحماله، قريباً من سفوح جبل "ديركله"، شمال العراق.. أغراني السفح المتماوج بينابيعه ونرجسه أنْ أحمِلَ أوراقي تحت وطءِ قصيدة بدأت تدغدغ روحي المتربة بعد شهورٍ من اليباس والشظايا. وجدتُ أقدامي تتحرّك باتجاه السفح وتتوغّلان بي بعيداً. وعلى مبعدة أمتار من أحراش عالية تحيط بنبعٍ مترقرقٍ سَمِعتُ أصوات الجنود والعريف تحذرني وتدعوني أنْ أعودَ فالأرض ما زالت بكراً بألغامها التي لم يجرِ مسحها أو انتزاعها بعد.. واصلت السير، غير ملتفتٍ لشيء سوى تموّجات الماء بين الحصى والعُشب.. بعد دقائق سمعتُ ورائي أصوات ركضٍ قويَّة، التفتُ لأجد ذلك البغل المسكين، فارّاً مثلي من اسطبله باتجاه النبع.. تجاوزني ثم تخطاني بأقدامه المتراكضة.. وما هي إلّا لحظات حتى سمعتُ دويّاً مرعباً، وأراه فجأة وقد تحوّل أمامي إلى نافورة من دمٍ ولحمٍ وغبار، تصاعدت إلى علوٍ.. ووجدتني أَسقُطُ من هول الرعب والانفجار متدحرجاً مع الصخور، وبعضاً من النثار يُغطِّي أحجارَ السفح وملابسي، وعلى مبعدةٍ من المكان انفتحت أشداق الجنود وعيونهم برعبٍ في انتظار انجلاء سحب الغبار ليعلَموا مَنْ منَّا الذي انفجر به اللغم..
أنا؟ أم البغل؟".

 حدثني عن ذلك الاسطبل [السجن] الذي حُبستْ فيه مع بعض الجنود، حيث قضيتم وقتاً طويلاً فيه أثناء الحرب سنوات الثمانينيات؟ وما هي القصيدة التي تشير إلى هذا المكان؟
- لم يكنْ سجناً بالمعنى المتداول، بل كان اسطبلاً مهجوراً للحيوانات، شمال العراق، في قرية شيخ أوصال، على مرمى من الحدود العراقيَّة الإيرانيَّة المشتعلة، وقد هجرها بعض أهلها وحيواناتها تحت وابل القصف. وكنتُ وقتها جندياً مُعاقَباً في تلك الأيام المرّة وضعوني فيه كعقوبة حين داهم أحدُ ضباط معسكرنا يوماً خيمتنا، وهالته كثرة الكتب المَحشُوَّة تحت يطغي [فراشي] ونوعيتها فأمر بمعاقبتي، ووضعي في ذلك المكان العفن والموحش، مع بعض الجنود الذين كانوا معاقبين لسببٍ أو آخر.
ولم يقتصر الأمر على هذا فقد ملأوا أرضيَّة ذلك الإِسطبل بصناديق العتاد للتخزين، فكنا ننام عليها، ونأكل ونحلم ونغني ونتشاجر ونتسامر، ونتطلع عبر الكوى الصغيرة إلى الغيوم السابحة ونطلق تأوهاتنا وحسراتنا الحبيسة. وكان معنا أحد الجنود مصاباً بالشيزوفرينيا يشعل طبّاخه الصغير "الچولة " فوق تلك الصناديق وعبثاً كنا نترجاه أنْ يحمل "طاوته" و"جولته" إلى خارج الإِسطبل، لكنه كان يعاند ويزبد ويهددنا" برفس الچولة وهي مشتعلة يتراقص أمامنا لهبها الدخاني. أي رعب مديد هذا يا إلهي؟".
في ذلك المكان الملتبس، ولدتْ أول سطور قصيدتي الطويلة "نشيد أوروك" عام 1984!.

 نشيد أوروك عبارة عن رحلة مرعبة من الذكريات. كيف كانت تجربتك في كتابة هذه القصيدة الطويلة؟
- لقد واصلت تلك القصيدة رحلتها المرعبة وأسرارها ونشيجها هناك، بين دوي القصف وعطن الإسطبل وزمهرير وهجير الخنادق وحقول الألغام، ثم انتقلتْ معي عام 1986 إلى بغداد والتسكّعات والصحافة، ثم بعد التسريح من الجيش عام 1989 تنقلتْ بين مكتبات ومقاهي بغداد والكوفة، ثم هربت معي من المعسكر في غزو الكويت وحرب الخليج الثانية عام 1991، ثم عاشت معي صرخات الانتفاضة ثم قمعها، وبعضاً من مطحنة الحصار القاسي، ثم تسللت معي الحدود إلى عمّان والغربة عام 1993، ثم صنعاء ثم عدن ثم الخرطوم ثم دمشق ثم بيروت حيث انتهيتُ منها هناك عام 1996 لتطبع في العام نفسه.
لقد وجدتُ نفسي والقصيدة نقف أمام تلك الأحداث المروّعة والمتلاحقة، وأمام هذا التراث الذي أوصلنا إلى ما نحنُ عليه. أقفُ أمامه وجهاً لوجه، أُسائلهُ، أُحاججه، أحتجُّ عليه، ثم أنطلقُ في محاولةٍ شعريَّة لأقول - كلَّ ذلك وكلَّ ما يعتمل في داخلي - على شكل هذيان طويل لا حدَّ له.
وقد تُوَّجتْ هذه القصيدة [النشيد/ النشيج] وهي لمْ تزل مخطوطة سرّيَّة في أدراجي، بصعودها على خشبة المسرح في بغداد، مرتين: ["هذيان الذاكرة المر" عام 1989 على مسرح أكاديميَّة الفنون الجميلة، ثم "الذي ظل في هذيانه يقظاً عام 1993 على مسرح الرشيد] من قبل المخرج الفنان غانم حميد. تلاه في المنفى السويد من قبل المخرج حسن هادي مع قصائد توماس ترانسترومر Tomas Tranströmer (الحائز على نوبل 2011). تلاه في المنفى اللندني من قبل المخرجة البريطانيَّة الهنديَّة ياسمين سيدوا  Yasmin Sidhwa، وسيتلوهم قريباً المخرج البريطاني الألماني بيتر ستورم Perer Stürm.
وكان قد صدرت طبعتها الأولى في بيروت عام 1996. وصدرت أول ترجمة لها (مقاطع منه نحو 200 صفحة) إلى اللغة الإنكليزيَّة تحت عنوان "اتركوني أقصُّ لكم ما رأيتُ Let Me Tell You What I Saw"، عن دار سيرين الويلزيَّة البريطانيَّة Seren Books. ونالت اهتماماً واسعاً ودُعيت للمشاركة في العديد من المهرجانات الدوليَّة ومعارض الكتب حول العالم.

 لماذا تدمج الأماكن العراقيَّة مع أماكن من المنفى في شعرك؟ وهل ثمة فرق في التجربة بين المكانين؟
- ذلك لأنني كثيراً ما أجدني في المكانين في وقتٍ واحد! جسر الكوفة، وجسر مالمو، مقهى حسن عجمي في بغداد ومقهى الشعر في لندن، شارع الرشيد وشارع الشانزيليزيه، نهر الزاب ونهر الدانوب، أغنية ناظم الغزالي والمغنية دوريس داي Doris Day. وغير ذلك.
في قصيدة "أغنية ثانية إلى اينانا - عشتار" والتي نشرت في ديوان مشترك مع الشاعرة البريطانيَّة د. جني لويس Jenny Lewis.

  من الأكثر رعباً بالنسبة لك؟ العراق أم المنفى؟ ولماذا؟
- ليست الأماكنُ ما تخيف، ولا الوطن ولا المنفى، فقد يغدو الوطنُ منفى عطفاً على قول أبي حيان التوحيدي: "أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه"، وقد يغدو المنفى وطناً عطفاً على قول عليٍّ بن أبي طالب: "الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة"، وقد تغدو "الحقيقة وطناً" عطفاً على قول البير كامو.

 ماذا تعلمت من الغربة؟
- قد تكون الغربة مصبّاً أو مصهراً للتجارب الحياتيَّة التي مررت بها. تتفحّصها بحريَّة، بعينٍ ووعيٍّ، بعيداً عن اللحظويَّة. وبذلك قد تعلمك الكثير. هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر فإنَّ الترحال يمنحك الكثير والمثير من الاستكشافات والخِبَر والصور والأفكار والمخيلة. وكل ذلك يوسع من أفق القصيدة.
لكنها أيضاً تأخذ منك بعض السعادات العصيَّة على أنْ تكون خارج محيطك: ذكريات الطفولة والملاعب الأولى والأصدقاء وحرارة المشهد ونبضه، والخ..
يقول ديغول: "إذا أردت أنْ تعرفَ ما يحدث في وطنك، فارحلْ عنه بعيداً"، وأقول في كتابي "القراءة والتوماهوك": "حيث يتيح البعد أحياناً رؤية صافية للأشياء. وبهذا يستطيع الكاتب – إنْ أراد – غربلة الكثير مما علق من تراب وبخور بالنصوص التراثيَّة، ومما علق من شعارات في النصوص الحديثة، لتأخذ – بعد نفضها من كل ذلك الغبار – بُعدَها الإنساني في القراءة والتأثير والرؤية والانصهار، وهذا الأمر يحتاج صفاءً ذهنياً خالياً من تشويش الإيديولوجيا والقراءات المسبقة".

 حدثني عن مفارقات تثير الخوف ذكرتها في شعرك؟
- كثيرة هي المفارقات التي مرّت في حياتي وشعري. بعد أن نُشرتْ قصيدتي "خرجتُ من الحربِ سهواً" التي تقول:
"على شفتي شجرٌ ذابلٌ، والفراتُ الذي مرَّ لمْ يَرْوِنِي. ورائي نباحُ الحروبِ العقيمةِ يُطلِقُها الجنرالُ على لحمِنا، فنراوغُ أسنانَها والشظايا التي مشّطتْ شَعْرَ أطفالنا قبلَ أنْ يذهبوا للمدارسِ والوردِ. أَركُضُ، أركضُ، في غابةِ الموتِ، أجمعُ أحطابَ مَنْ رحلوا في خريفِ المعاركِ، مرتقباً مثل نجمٍ حزينٍ، وقد خلّفوني وحيداً هنا، لاقماً طرفَ دشداشتي وأراوغُ موتي بين القنابلِ والشهداءِ"..
أوقفني شاعر مخبر وبيده القصيدة واضعاً إِصبعه على هذا المقطع، متسائلاَ: من هو الجنرال الذي أطلق كلابه على لحمكَ؟
فوجئت بسؤاله القاتل، لكنني بلعتُ ارتباكي وأجبته بسرعة وحذر: وهل هناك غير "شوارسكوف" يا أخي!..
كانت هذه إحدى طرق أو قلْ "نِعَم" التورية، والخطاب المستتر.. كانت التوريَّة بحق طوق نجاة في ذلك الخضم المدلهم..
أنظرِ الآن وأتعجب: كيف خرجتُ من مقصّاتهم الرقابيَّة سهواً، أكثر من تعجبي كيف خرجتُ من الحرب سهواً".
وقد نبّهني ذات يوم سكرتير تحرير المجلة ضرغام هاشم أنَّ مقالتي ونصوصي تتعبه أكثر من غيرها مما تصله من مواد، لأنها تضطرهُ لأن يقرأها مرتين وربما أكثر قبل أن ينشرها، خشية أنْ تكون قد فلتت منّي عبارةٌ قد تؤدي إلى ما لا يُحمد عقباه. لكنَّ صديقنا الرائع هذا، فلتت منه مقالته التي أدَّتْ بحياته، تلك المقالة التي كان يردُّ بها على مقالات "عبد الجبار محسن" [وقيل مقالات صدام حسين] عقب انتفاضة آذار عام 1991. ولمْ يعرف له قبر الى اليوم.

 تتسم الصور المكانيَّة في شعرك بالتنوع بين المدينة والشارع والبيت، ولكنها أماكن مليئة بالتوجس والخوف... لماذا كل هذا الرعب في هذه الأماكن؟
- حياتي في شعري، وشعري في حياتي، وهما يجوبان معي شارع المنفى تتبعهما ظلال وخطى الماضي في شوارع الوطن.
وذلك الظل في الوطن له أقسى وأكثر من معنى، وهو يتعقبنا من مكانٍ لمكانٍ ومن فكرة لأخرى. وقد عانينا منه الكثير.

 يوجد تكرارٌ للحروف والكلمات في ملحمتيك "نشيد أوروك" و"نرد النصّ"، ما معنى ذلك؟
- التكرار هو صدى صوتنا في البريَّة والأزمنة. هو مرآتنا حيث تتدرّج فيها الألوان والكلمات. تتداخلُ وتفترقُ. وتتكوّر وتتشظّى.
نعم ستجدين ذلك في "نشيد أوروك". وستجدينه أكثر في "نرد النصّ" تكراراً واشتغالاً في البصريات والإيقاعات والحروفيات والفراغات والريازة والخطوط. ليشكل بذلك رؤى بصريَّة وأصواتاً إيقاعيَّة. وهما مهمان جداً في أي نصٍّ (أو عملٍ) وخاصةً في النصوص الطويلة لكسر الرتابة ربما، أو لرسم تموجات الكلمات الجمل عبر الصفحات المتعاقبة. إنَّه يشبه تدرّجات التكرار للوجود والوجوه أو النصوص في المرايا المتعاكسة، أو تدرّجات الأصوات والإيقاع الذي يحمله الصدى.

  أين تحب أنْ تكون؟
- حيث تكون الحريَّة. وحيث يكون الكتاب والقصيدة، والخبز والفكر والنور والفن والأمان والكرامة، وذلك هو شرط وجودنا الإنساني على هذه الرقعة أو البقعة من الأرض، التي هي شرط وجودها في هذه المجرة، التي هي شرط وجودها بين هذه المجرات، التي هي شرط وجودها في هذا الكون، الذي هو كنه الوجود لدى الخالق الذي خلق هذا الإنسان وكرَّمَهُ، كما تنصُّ كلُّ الأديان، وجلُّ الكتب السماويَّة وغيرها، وهي تروي لنا كيف أنَّ الرب قد أمر ملائكته جميعاً أنْ يسجدوا للإنسان، وأنه علّمه الأسماءَ كلَّها، والخ.. فكيف لأحدٍ ما أنْ يكون له الحق في سلب حريتك وفكرك وخبزك وكرامتك ووطنك ووجودك. وهنا تتجلى صرخة نزار قباني: أنا حريتي فإنْ سرقوها. تسقطُ الأرضُ كلها والسماءُ. تسبقها صرخة شكسبير: "أنْ تكون أو لا تكون تلك هي المسألة". يسبقهما قول عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" تسبقهم أقوال الفلاسفة القدامى من سقراط وأفلاطون وأرسطو وكونفوشيوس وفيثاغورس وبوذا..

  بعد كل هذه التجارب المرعبة في الوطن هل تتمنى العودة إليه يوماً ما؟
- نعم! بعد كلّ شيء ورغم كلّ شيء، ما زلت أحلمُ وأفكرُ وأعملُ وأتمنى أنْ تتاح لي هذه الفرصة والفسحة لما تبقى لي من حياةٍ وشهيقٍ وكتابة.
وقد ذكرتُ ذلك في الكثير من قصائدي منها على سبيل المثال لا الحصر: "مطرٌ بلندن"

  ما أهميَّة ذكر المكان والزمان اللذين تمت فيهما كتابة كلّ قصيدة؟
- نعم.. إنَّه سؤالٌ مهمٌ ولمّاح. ذلك لأنني عشت شطراً طويلاً من حياتي ونصوصي مهاجراً أبدياً على غير استقرارٍ، سواء في الوطن أو المنفى، فكانتْ الأمكنة والأزمنة كأنهما يتسربان من بين يدي من دون أنْ أتمكن من الاحتفاظ بهما، لذا حرصتُ منذ كتاباتي وإصداراتي الأولى أنْ أذيّلَ جلَّ نصوصي التي أكتبها بالتاريخ والمكان معاً، حتى ولو كان نصاً قصيراً.
لهذا تجدين وأنتِ تتصفحينها اليوم الكثير من المدن والترحال عبر القارات حيثُ حططتُ رحالي فيها أو عبرتها. وأحياناً نادرة قد تجدين الوقت والحال. كما في قصيدة (كوابيس) التي انتهيت منها حوالي الساعة 3:00 بعد منتصف ليل وصقيع السويد وأنا أرتجف قلقاً وهلعاً وغضباً من كل أطرافي بعد اتصالٍ هاتفيٍّ مرعبٍ من بيت أهلنا في العراق، وقد داهمه رجال الليل.
وقد انتبه الكثير من النقاد والأصدقاء الذين قرؤوها أنها مقطَّعة الكلمات والأوصال بالكامل، كتقطّع أنفاس شاعرها وحاله ساعة كتابتها..

  ما هي القصيدة التي كتبتها والتي أثارتْ وتثير مشاعر وذكريات مرعبة بالنسبة لك؟
- كثيرةٌ تلك القصائد التي صوّرتْ وأرّختْ تلك الأحداث المريرة والعصيبة التي هزّتْ كياني وحياتي، والى الآن. أذكر سنوات الحرب المرّة الشرسة، وسنوات المنافي الصقيعيَّة النائية، وما بينهما من أيامٍ وذكريات وأحلامٍ وقصائد وخساراتٍ وأصدقاء رحلوا أو غُيّبوا أو غابوا.
يمكنني أنْ أذكر لك هنا قصيدة "في الأرض الحرام" وبعدها قصيدة "في حديقة الجندي المجهول".
القصيدة الأولى: تتحدّث عن جُندي قتيل، وجده جنود الرصد بعد انبلاج الفجر، أمام سواترهم المتقابلة والمتقاتلة، وهو مسجّىً في الأرض الحرام، وقد تناثرت ثيابه وحاجياته وبضعة ألعاب أشتراها لأطفاله. كان يبدو أنّه ذاهب في إجازته الدوريَّة، قبل أن ترديه طلقة قناص من أحد ربايا الطرفين المتقاتلين.. من دون أنْ يعرف أيٌّ من الطرفين لِمَنْ هذا القتيل؟
القصيدة الثانية: بعدها بسنوات عدة، وقد غادرتُ الوطن، أخذتني شوارع الغربة في عمّان إلى اللا أين. كنتُ يومها أتمشى في حدائق الساحة الهاشميَّة بلا وجهةٍ أو صديق، تحت تلك الشمس الناعمة، ووجدتني فجأة أتسمَّرُ أمام رجلٍ عراقي يتوسَّد حقيبته ولحيته الكثّة على بلاط الساحة، مستسلماً لنومٍ عميق، تماماً كأنّه ذلك الجُندي القتيل المسجّى في تلك الأرض الحرام. وتخيلتُ لحيته وقد أخذت تنمو وتنمو وتكبر حتى لتغدو غابة... بعدها وجدتني أجلس في مقهى على مبعدة من المشهد أسطّرُ قصيدة "في حديقة الجندي المجهول".
وتجدين كذلك في "نشيد أوروك" و"نرد النصّ" الكثيرَ والمريرَ من الأحداث والتفاصيل التي عشتها سنوات الحرب والأخرى سنوات المنفى