لُعبة الشّاهِد في مسرحيّة {بالة}

ثقافة 2023/06/07
...

 زهير الجبوري 


في تجربة موسمية جديدة، قدم الفنان ثائر هادي جبارة مسرحية (بالة) على خشبة نقابة الفنانين في بابل مطلع شهر حزيران 2023، وكانت من تأليفه وإخراجه وتمثيله، وقد شهد العرض دخول تقنيات (التاداشو) وعرض بعض المفردات اليومية التي تباع في سوق البالات من الألبسة وبعض الأدوات الأخرى في الحاوية، وقبل الدخول إلى تفاصيل العرض، كانت علامات السينوغرافيا دقيقة ومحكمة إلى درجة وضع طريق شريط من (الكمامات) على الأرض قبل الدخول إلى قاعة المسرح وصولا إلى الخشبة وإلى القطعة البيضاء المرسوم عليها (فم) في عمق المسرح، لتعطي دلالة سيميائية لموضوعة (الفايروس) الذي أصبح في فترة قريبة جزءا من يومياتنا ومصيرنا الحياتي..

اللعب باليومي وبالأشياء التي تبدو مهمشة وبالسلوك الاجتماعي العام، هو ديدن الفنان (جبارة)، وفي هذا العرض الذي استهله ببيت شعري (قبل أَنْ ترتدي أي زي يعجبك/ ارتدي ضميرك قبل كلّ شيء)، انعطفت فكرة المسرحية إلى جانب خطابي، على الرغم من وجود جميع العلامات التي تعبر عن تعبيرية العرض ومضمونه، وتغريبية اليومي ومحاولة جعل اليومي مؤطرا بأبعاد مفاهيمية متمركزة بمصير الواقع المفعم بكل الانتهاكات البشرية، وعلامة (فض البكارة) دلالة وافية لـ (فض بكارة حياة الإنسان العراقي بخلخلة كل بناه التحتية) وهي من حفريات الفنان ثائر هادي جبارة الذي يخلق بين فترة واخرى عوالم مضمونية خاصة به، وهذا ما يعطي تفرده الخاص بأداءاته وأفكاره ومنعطفاته الثقافية والسسيولوجية في عالمه المسرحي..

في الثيمات المتناولة لـ (البالة) والتي وضعت في كيس كبير واخرى مطروحة على الأريكة، انطوت كل واحدة منها على موضوعة سياسية واجتماعية وثقافية خاصة، وهذه الألتقاطة تحسب للفنان كثيرا لغوره في تفاصيل الواقع العراقي المعاش، وقراءة الواقع بجرأة الأداء ولياقة الحركة واستغلال السينوغرافيا استغلالا منضبطا، فكانت (البدلة العسكرية، وقميص الطفل، وبدلة العمل، وبدلة الطبيب، وفستان عرس، و(روب/ رداء) طالب الدراسات العليا، ودرع ثقافي مكتوب لشخص معين، وانموذج لهوية ثقافية)، كلَها اعطت قراءة وافية وناقدة حين يكرر الفنان عبارته (اللازمة) (5 بألف) والتي تأخذ البعد الدلالي للحروب الخمسة التي عاشها البلد منذ عقود، بمعنى فقدان قيمة الأشياء في البلد مهما كانت حاضرة وتمتلك مكانتها في سلطة الواقع، وهو في الوقت ذاته قراءة كاشفة لحقيقة الانهيار الكبير في مؤسساتنا الناهضة في بناء الإنسان على المستوى الصناعي والخدمي والعمراني، وما إلى ذلك..

كما أخذ العرض المسرحي (بالة) فكرة الشاهد، بكل ما جاء به النص من (تأليف وأداء)، بمعنى حضور ذاتية الفنان في الأمساك بفواجع الألم منذ حروب خلت، فهو الشاهد والكاتب والمؤدي، وهو الصوت المنتفض والمعبر عن صراحة المواجهة لكل مرحلة من مراحل السلطات التي عاشها والتي كانت نتائجها واضحة، لذا كانت صرخته في نهاية العرض (65 عاما وأنا ألبس السّواد الذي أكلته الحروب.. على ابني الذي دفن حياً.. / 5 بألف حروب ..5 بألف أرامل)، والرقم (65) هو عمر الفنان، وبالتالي نمسك بوحدة الموضوع بأنها قراءة استرسالية كاشفة لحقائق بائنة وأخرى مسكوت عنها، واستطاعت ان تصل إلى المتلقي بمهارة الأداء وحركة الجسد.

أما ما يخص (سينوغرافيا) العرض، فقد اعطى دلالة كافية ومشبعة مع حركة الجسد أثناء مواجهة الجمهور، أو في (الظل/ الخيال) خلف الستارة البيضاء، لكنّ الفنان لم يعط البعد السيمائي لملامح الوجه (وجهه) ذي اللّحية الكثّة، (الشَّعْرِ) الأبيض الكثيف، إذ من الممكن أن تكون هناك توهجات إيمائية معبرة عن حقائق يمكن قراءتها بأسلوب أو أداء آخر، على الرغم من توصله الوافي للمضمون الذي اشتغل عليه، كما اقتصر اداء (سجاد علاء وحيدر ميثم) بحركات مختزلة بوصفهما دميتان تحركهما الأحزاب، وكانت خاتمة العرض بعد أن سرقا بضاعة (البالة)، ويستمر الحال في تجربة راهب المسرح البابلي ثائر هادي جبارة، وهو يستعد في وقت لاحق في تقديم مشروعه الفني/ المسرحي بالشكل الذي يلامس واقعنا المعاصر، الذي هو امتداد لماضٍ مليء بالفواجع والحروب

والأوجاع.