جاسم عاص
ارتبطت في ذهن الفنان (يحيى الشيخ) لغتان، الأولى: جدار اللوحة الذي عكس خلاله رؤاه وتصوّراته، واللغة الثانية: انبثقت من الأولى، وخضعت لنفس المكوّن الجيني. فقوّله :”ثمة طريقان مفترقان في غابة وأنا، أنا من سلك غير المطروقة منهما، وقد كان ذلك هو الاختلاف بأسره”.
يستثمر فيه بنية الحكاية التي ضمتها بطون الكتب، خاصة كتاب الليالي ومروياته، في مسألة الاختيار للطريق عبر رحلة غامضة، ليست لها مؤشرات واضحة. كما وأنه صاغ فلسفياً أسلوب الشك واليقين، الذي اصطف في مسألة ومفهوم الاختيار بحثاً عن الحرية ضمن الأمكنة الواسعة. والغابة إشارة إلى غموض العالم وصعوبة كشف معالمه الفكرية والبنيوية. من هذا كان تأكيده على هذا الاختيار من باب الامتحان الذي يحتمل الصواب والخطأ. لكن ما يبقى هو التجربة التي تتضح معالمها في مدوّنة التاريخ. إنه لا يؤمن بحالة الاستقرار، حتى لو فرضت على وجوده، كما أوضحت السيرة. لكن مسألة الاختيار الصعب هو ما يرمي إليه عبر وصفه لطريقين مجردين عن وضوح طبيعتهما.
إن الامتحان الصعب في الاختيار، تُفصح عنه التجربة والخوض في ما هو غامض. هكذا قالت الحكاية أو المروية للشيخ، وهو يتلو ويستقبل معارفه الأولى منذ أن اختير كطفل طاهر يراقب طقوس التعميد بمياه النهر. أما ما يعنيه بالاختلاف الذي أسفرت عنه الكلمات، ففيها يعني اختلاف الوسائل والرؤى التي مكّنته من اجتياز تجربة غير سهلة أو ميسورة الدخول والاجتياز. فقد أكد على أنها تجربته، وليتمخض عنها ما يتمخض.
وهذا هو الاختيار الوجودي في الحياة، المرهون في الوجود أو عدمه. كذلك انصهار سؤاله في كوّنية أعمق دلالة على طبيعة ذهنه غير المستقر. أي أنه يُقدم توصيفاً لما عانى جرّاء هذا الاختيار، بل عتابه يتحوّل إلى حالة غضب مكبوت. وأسئلته هذه المرّة عن الوسائل التي اعترضت طريقه المُختار بإرادة، أما أساليب المصادرة والعُسف فهي محكومة بقوة الإله الذي وجد الشيخ نفسه مكبّلا بإرادة خارج إرادته.
ولعل الشيخ يأخذنا إلى البعيد من رؤى الشعر، لكي يُحكم العلاقة بين سطح اللوحة ومنحى الشعر، أي يوحّد اللغتين الباهرتين في استجابة متقاربة حسّية واحدة. تتحوّل خلالها صورة العالم في زهوه وموته. فهو يوقظ الخطوط والألوان، الظِل والضوء من جهة، والحرف واندماجه بما يؤاخي صيرورته، فينتج شعراً. بمعنى وحّد اللغتين في رؤية إبداعية واحدة. أي وصل إلى صلب المقولة المؤكدة على: أن الرسم شعر صامت، والشعر رسم صائت.
ولم تراوح القصيدة على رؤى ثابتة، ولا محوّر يكرر نفسه، بقدر ما امتدت إلى أكثر من أسئلة وحراك فكري، له علاقة متينة بالوجود وعدمه، مؤكداً على حالة التنبّؤ الذي يؤول بالأشياء إلى الاضمحلال. وهذا ناتج عن اللاستقرار الذي أقّرته الرحلة الطويلة في الأمكنة:
{ سيأتي يوم تعثر فيه الأنهار على أشلائها في ركام البحر،
وعلى أسمالها في حوصلة النوارس،
يوم يصدق خليلي؛ إنّه آخر الخلّان }
وهذا استشراف لعدمية الوجود، وثمرة ما هو مضطرب ومتجاوز عليه. حيث يفضي هذا الحال إلى صورة الغياب الدائم، الذي يؤكد متوالية تكرار الخطأ وتسيّده على الوجود. وقد عالج هذه الرؤية ببساطة تنحو إلى العمق الفلسفي، لتؤشر حال المطرودين عن مجالهم:
{ سيأتي يوم .. تجلس فيه معاطفنا على الكراسي
تحتسي الخمر
ونغيب نحن تحت المناضد}
أليس هذا نوعا من التغريب المفروض، لأن ما يسند قراءتنا، ما ذكره من انثيال شعري لاحق. أكد على مثل هذه المصادرة للوجود:
{ وسيأتي يوم آخر إثر يوم آخر ؛
يوم ينشف الطين على هاماتنا تاجاً للمهابة،
يوم يخرج النمل من أوكاره يُغني:
“كل من شاء منكم أن ينقذ حياته، عليه أن يخسرها”
أأنت الصباح الذي ينتظرني ... وهو يبكي ؟
لعل هذا يرمي إلى ابتداء الوجود في الميثولوجيا. وفي الأخص قصة الخليقة البالية (أنوماليش) أي أنه يتواصل مع الأصول في كشف رؤاه، فيقّر النتائج على أنها أمر فرض من قوى خفيّة. وهو ما يتعلق بالربح والخسارة في هذا الوجود. وبسردية عالية يُدخل الشعر فيها، ليحقق رؤى جديدة (كنت أرسم الأشجار، وكانت الأشجار ترسمني / تعرّيت، قالت الأشجار: هذا شبيهنا) وهنا يستعرض كل الممكنات التي تجعله يقاوم مد المياه. تماماً كما أوعزت تياراتها المُهَدِدة لـ (نوح) ونداء الرب؛ أن أصنع الفُلك، وأنقذ ما تبقى من البشر. وتكون العلاقة مع البحر تنمّ عن مقاومة ورفض الاستسلام:
{ انشّق البحر، حملته، سقطت قطرة منه؛ فعمَّ الطوفان
حزّمتُ أغصاناً، صنعت كلكلاً، وطفتُ }لقد تعامل (يحيى الشيخ) مع لغة الشعر، بمثل ما كانت لغته الأولى سيّدة التعبير عن خلجاته ورؤاه. إن هذا التآخي بين اللغتين، ينمّ عن موهبة كبيرة.