مثقف في ملعب كرة القدم

ثقافة 2023/06/07
...

أحمد عبد الحسين
كرة القدم مسرح.

ميّزتها الأساس أنها خيالٌ يحدث خارجاً، خارج ذهنك، خيال متحقق عياناً أمامك مباشرة، وكما في كلّ مسرح فهي تنفيس لمكبوتات مضمرة، هي الخَلَف الحقيقيّ لمسارح المصارعة الرومانية، بل أبعد وأقسى ففيها شيء من رواسب مسارح المجالدة حيث يقف البطل أمام الأسد ليخدم نوازع المتفرجين وتوقهم إلى رؤية ثمرات خيالهم من قسوة وعنف وقد انسابتْ من رؤوسهم إلى الخارج متحققة على هيأة لعب.

الفارق بين مسرحية تراجيدية لشكسبيروعرضٍ دامٍ لمجالدة مميتة، أن المسرحية “منصوص عليها”، يندر الخروج على نصّها المؤسس لها، وبذا فهي في الدرجة صفر من الارتجال. أما المجالدة فلا يحكمها نص سابق على العرض سوى أن واحداً فقط يجب أن يخرج حياً، وسائر التفاصيل الأخرى عرضة لقدرة المجالِد وذكائه وخبرته وموهبته في الارتجال. ثمّ هناك فارق آخر أساس: في المجالَدة دمٌ وموتٌ وعنف سافر، بينما في المسرحية إيهام بالعنف لكنّ قواعد اللعبة تجعل الجميع ممثلين ومتفرجين، آمنين.

كرة القدم أخذتْ أجمل ما في الاثنين، أخذتْ من المسرح مسالمته وإيهامه بالعنف والتغالب التراجيدي غير المؤدي إلى مستشفيات أو مقابر، وتركتْ الإعدادات المنصوص عليها “السيناريو والإخراج” التي تجعل الممثلين “اللاعبين” مجرد مؤدين لنص سابق له نهاية متفق عليها. وأخذتْ من المجالدة استيعابها لارتجال واسع “بضمنه التحايل” واعتماد على ذكاء ومواهب اللاعبين، ونبذت العنف والدم الذي يجعل انتصار المجالِد قتلاً لغريمه.

بهذا الانتقاء الجذريّ صارت كرة القدم بديلاً مثالياً للمسرح والمجالدة معاً. ففيها جرى الانتقال من التمثيل إلى اللعب، صار الممثل المقيّد لاعباً حراً، وفيها أصبح هناك انتصار وتغالب من دون قتل. فرجة متكاملة آمنة.

الفيلسوف فيتغنشتاين انتبه بفضل كرة القدم “التي كان مغرماً بها” إلى أن الفلسفة ـ ومثلها كل نشاط لغويّ ـ هي لعبة، والكتابة لعب. لأن ضروب البراهين المؤسسة للـ”حقائق” ما هي إلا استعارات ومجازات وكنايات وتشبيهات هي في مجموعها قواعد تطابق قواعد لعبة كرة القدم، وأهمية كل كلمة توازي أهمية كلّ لاعب في مركزه، فكلّ عبارة تأخذ أهميتها في النصّ بنفس الآلية التي يكتسب بها كلّ لاعب أهميته من مركزه في المستطيل الأخضر.

لكنّ المسألة ليست آلية تماماً. المفاجآت التي تأتي بها الانفلاتات اللغوية حتى في أشدّ النصوص صرامة تجد مثيلاً لها في الملعب. يصرف ليونيل ميسي جهده الأكبر لا في الركض ولا في المراوغة بل في التلفت يمنة ويسرة لرصد الساحة بأكملها، وفي الاحتفاظ بطاقته كاملة إلى أن تحين لحظته التي يحسم بها الأمر بحركة واحدة. بينما يصرف كريستيانو رونالدو كل طاقته في الجهد الانضباطيّ والحركة الدائبة والتعامل مع المباراة في دقائقها بالوتيرة ذاتها.

هذه الحريّة وذلك الارتجال جعلا من كرة القدم كونشيرتو يتيح لبعض العازفين المهرة طليقي الروح أن يخرجوا على الميلودي ليغدو العمل فيه مسّ من السماء.

مسرح وتمثيل ومجالدة وموسيقى وفرجة واحتفال. كرة القدم هذا كلّه وأكثر.