محاكمات اللغة الروائيَّة

ثقافة 2023/06/06
...

موج يوسف 



في العقدين الأخيرين  باتت اللغة تعاني من فقر فني في القصة والرواية، فلم يتمّ تداول مصطلح ( اللغة الروائية) من قبل الباحثين والنقاد، ولم نسمع من قارئ أنه أُعجب بلغة كاتب ما.  فلماذا اللغة الروائية لم تُرسّخ كجزءٍ أساسي في معجم المصطلحات السردية؟ ولِمَ لم توضع كشرط لا يمكن تجاوزه للحكم على العمل  الإبداعي فكما نقول : اللغة الشعرية والتي نعني بها أن صاحبها  يمتلك لغةً يمكنها أن ترمم ما انكسر، وأن توحَّد التشتت. فهل اللغة الروائية كذلك؟  
  إن التساؤلات الآنف ذكرها تتطلب مراجعة فاحصة لكل ما كُتب من روايات عربية منذ خمسينيات القرن الماضي، ونضع تساؤلاً أمام كل عمل  روائي : هل هذا الكم السردي صالح للعيش لقرون أخرى؟ وهل سيصمد أمام السيول القادمة من أوروبا والاميركيتن؟ وحتى إفريقا؟ أم أنها معرَّضة للموت؛ بسسب نطفتها التي خُلقت مشوهة؟ إن الإجابات الجاهزة بنعم أو لا تعالج الإشكالية المعاصرة، فلا بد من أن نشير إلى أن النقّاد العرب القدامى منذ الجاحظ اعتنوا بلغة السرد وفنِّيتها، فصاحب البيان والتبين كان يؤكد على ضرورة مراعاة الكلام والمعاني المستعملة بالنظر إلى كلّ فئة تُعنى بقراءة أو سماع ما يبثُّ إليها. والمطالِع لعيون التراث النثري سوف يلاحظ مدى اعتناء العرب بلغتهم السردية؛ وهذا ما جعل أدبهم يطول عمره ويُخلد إلى عصرنا، الذي أصبحت لغته مصابة بتلوُّث فاستبدلت إيقاعها بموسيقى الحجر، وصار المحكي اليومي فيها عبئاً على الاستعارة. فيمكننا تصنيف اللغة التي تكتب بها الرواية  بأنها تسير بخطوط غير متوازية، فالأول: يستعمل الفصحى بعذوبة ونقاء، وتعبِّر اللغة عن كاتبها قبل شخصياته، والثاني: يتمثل بكتّاب طغت عاميتهم على الفصحى وتناثرت ألفاظ كثيرة من دون معنى متعدد الدلالات، وحشو من الجمل لا يتوافق مع السياق العام ممّا جعل بوصلة القارئ تضيع وهو يبحث عن ترابط بالموضوع، والذين خلقوا التيار العامي في الرواية هم إبراهيم أصلان وغائب طعمة فرمان في النخلة والجيران عندما رفعوا من هامشية  العامية على مركزية الفصحى. أما الخط الثالث فهو السائد كثيراً الذي لم يعرف بمهاية اللغة الأدبية فصار يعتمد على الأخبارية، والتقريرية والصحافية ويرصِّعها بحوارات الشخصيات العامية، فهؤلاء اهتموا بالمضمون على حساب الشكل اللغوي، فهل هذه الإشكالية هي جهل بالرواية؟ أم بقيمة اللغة؟ 

يقول إمبرتو إيكو في كتابه( آليات الكتابة السردية) بترجمة، سعيد بنكراد : بعد كتابتي لاسم الوردة وصلت رسائل بعدد هائل كانت في مجملها تسأل عن انبثاق العنوان؟ فيردّ: إذ كانت الأشياء آيلة للزوال، فإننا نحتفظ منها بأسماء خاصة، ويمكن للغة أن تتحدث بنفس القوة عن الأشياء المندثرة وعن الأشياء الموجودة. فإيكو الناقد والفيلسوف والكاتب كان مدركاً لفعل اللغة الذي يحرّك الأشياء في ذات كل قارئ، فهي العلامة الفارقة بين الأدب واللاأدب وما أن ضعُفت فنيتها، وافتقرت إلى الدهشة يمكن القول عن العمل الكتابي بأنه ليس أدباً، وبتعبير أدق : إن الرواية عبارة عن وحدات متكاملة من (اللغة، والشخصيات، والزمكان والحوار والحبكة..) فإن فُقدت أحدها أختل العمل وخرج من جنسه الأدبي، حتى لو نال شهرةً وجوائز كبرى، فهذه رواية الديوان الاسبرطي الفائزة بالبوكر اعتمد كاتبها على لغة صحافية إخبارية غير منتجة للدلالات، على التعددية الصوتية فيقول: “ أفيق على نسمة ريح باردة تتسلل إلى جسدي بينما وقفتُ منتصباً أراقب الميناء لم يكن صديقي هناك. الزرقة توغل في ذاكرتي والبرد بحد إبره لتنخسني فأعود إلى دربي الأول أحثُّ الخطى وانعطف يميناً إلى الشارع” ص 15 . فمثل هذا على النص على طول مساحة السرد، تظهر الأخبارية  فيه بتعدد الأفعال، والفقر الإنزاحي الذي لا دهشة فيه تشد القارئ ولا نهاية ينتظرها، ولا ترابط في المعنى، ولا صور تقرب المشهد الخيالي للمتلقي. وإن اعتماد الكاتب على تعددية الصوت وتوظيف السيرة داخل الرواية يوحي بضعف الخبرة في الفن الروائي، فهذه رواية شرفة الهاوية للكاتب إبراهيم نصر الله الذي اعتمد على روي سيّري لكل شخصية، فتقول إحدى شخصياته: “ رفضتُ ستة رجال تقدموا لخطبتي بمن فيهم سلمان، لكن مشكلتي بدأت حين سمعته قبله بأكثر من عامين كنت على وشك الزواج. علاقة ناجحة كان يمكن أن تتّوج بزفاف لا ينسى، بقرحة لا تنسى لم تكن علاقة طويلة لكنها من العلاقات الكثيفة التي تجعلكِ تحسين أنكِ عشتِ عشرة أعوام في ثلاثة أشهر. كنت أعيش كل لحظة فيها لكنني لم أنسَ في أي لحظة قابلتُ فيها ذلك الزميل الجامعي لم أنسَ أن أحمل منديلاً كبيراً قادراً على استيعاب دموعي في لحظة كنت أعرف فيها أنها تنتظرني هناك على عتبات المستقبل” ص 31 . النص أعلاه يكشف عن شح المخزون اللغوي عند الكاتب من خلال تكرار الألفاظ والجمل في نص واحد، مما أضعفَ أسلوبه الكتابي، وما يقوله هنا ليس إلا كلام اعتيادي واقعي لا ميزة إبداعية فيه ، وهذا الأمر يسير على كثير من النصوص في الرواية، كما نجد ما يقترب منه بصورة أخرى عند أحمد سعداوي في رواية فرانكشتاين في بغداد يقول: “ قال السعيدي ذلك لم يفهم محمود شيئاً. كان يتصور أن السعيدي صديق للأميركان والحكومة لماذا يريد إحراجهم؟ لم يجد في نفسه الشجاعة للاستمرار في الأسئلة، سيعرف حين يصلان إلى هذا الصديق القديم كما يصفه السعيدي. دخلا الكرادة في الزحام الذي خلَّفته دوريات الهمرات الأميركية تسير ببطء فتح السعيدي مسجل الديجيتال.. لم يبدِ السعيدي ضجراً. وصلت سيارة السعيدي إلى بوابة حديدية سميكة الجدران. كان الليل قد حلَّ وانعطفت سيارة السعيدي، التفت السعيدي إلى محمود” إن هذا التكرار لاسم الشخصية بشكل مفرط  وغير متناسق مع روح اللغة العربية التي تميل إلى المجاز واستعمال الضمائر، وهذه العلة اللغوية هي سمة ظاهرة في رواية سعداوي، ويمكن استعارة مصطلح ( خشونة الكتابة) الذي اجترحه الناقد ود. فائز الشرع على الشعر، ونطبقه على السرد، ونعني بالخشونة الكتابية أن هكذا نصوص ،تتكرر فيها  الألفاظ ، تعد حشواً لا معنى فيه، فتصاب اللغة بخشونة كما تصاب البشرة عندما تتعرض لعوامل خارجية، فتضعف دلالة اللفظ أو تكاد تنعدم منه، والنص أعلاه مع نصوص أخرى كثيرة مترهلة البناء، وتشير إلى عدم امتلاك كاتبها لأدواة اللغة وأسرارها، وأتكأ على ما يحفظ من مخزونه الصحافي؛ لأنّ الخبرية حاضرة في النص. 

ما يمكن قوله: إن عدم امتلاك الكاتب للغة الأدبية، الحرفة الفنية ، يشير إلى أن الرواية خرجت من هذا الجنس الأدبي، لأنني كما أشرت سابقاً بأن اللغة الركن الأساس للعمل الأدبي أن لم تكن إبداعية أدبية منحوتة فلا قيمة للعمل تذكر. وهذا ما تعاني منه الرواية في عصرنا الحالي الفقر في اللغة الروائية .