نصير الشيخ
يبقى هاجس الفنان في اكتشاف ماهية الأشياء وسبر أغوارها عبر التعامل معها والإمساك بخاماتها بغية توليد موضوعات أكثر بهجة ودهشة، ومن ثم ينتج لنا وعبر معادلة الذهن والتنفيذ صورة جمالية تنتمي للفن في رسالته وفي منطوقه الحداثي.
والألوان بتنوعها ورمزيتها شكلت عوالم الفنانة "لينا الناصري" حيث كانت ألوان الباستيل والماجيك والمائيَّة هي الأكثر استخداماً بعد مرحلة التخطيطات على الورق بأقلام الرصاص والفحم والأقلام الخشبيَّة، تلك هي مساحة تنفيذ عوالم الفنانة وحريَّة تعبيرها الذوقي بلمساته الفطريَّة. ولأنَّ التجريب في الفن مساحة تفتح أفقاً أوسع بما يتناسب مع الجانب المهاري للفنان وإحساسهِ بالخامات الجديدة وهي خير تعبير عن عوالمه؛ لذا جرّبت الفنانة إضافاتٍ على مستوى التكنيك "أزهار مجففة مع ألوان عبر لوحاتٍ أربع" تمَّ تنفيذها عام 2000. ثم بدأت في إضافة مواد أخرى وبما يكشف عن هارموني جديد للوحة فكانت مادة "نشارة الخشب والمناديل الورقيَّة" كل هذا في سعيٍّ تجريبيٍّ لاكتشاف طاقات جديدةٍ للعمل الفني عبر تشاكل المواد الخام ونموها العضوي على السطح البصري. وظل خيار التخطيط على الورق فرصة الانفتاح والتعبير لمساحة تولدت عنه مجموعة كبيرة من التخطيطات على الورق اكتنزت برمزيتها وبعدها الأسطوري محاكاة لفنون وادي الرافدين، هذه التخطيطات شكلت أغلفة وأيقونات ورسوما تعبيريَّة ضمتها صفحات مؤلفات المفكر د. خزعل الماجدي.
ولأنَّ الفنانة لينا الناصري ظلت هاجساً وتعبيراً وتنفيذاً تمتاح من فنون وادي الرافدين وتحاكيها في أعمال ولوحاتٍ محاولة بعث الجديد فيها، فكانت المرأة عندها (رمز من رموز الجمال وكتلة من الأحاسيس والمشاعر وهي تمثلني بفرحي وحزني وقوتي وضعفي، وما نحن إلا استمرار لتلك المرأة المكافحة والمساهمة بدور كبير لا يمكن نكرانه في بناء أولى الحضارات الإنسانيَّة في بلاد ما بين النهرين).
من هنا بدأ مشروعها الإشهاري كفنانة طرحت نفسها تجربة ورؤية عبر تأسيس "مجموعة أنامل لإحياء آثار ما بين النهرين" تحت شعار"آثارنا هويتنا فلنحمها بفننا" حيث انطلاق هذا المشروع ردة فعل على ما حصل عام 2003 والفعلة الشنيعة المتمثلة بنهب وسرقة آثار العراق.
الحرف في تموّجهِ والكلمة بطاقتها الإيجابيَّة والصورة الشعريَّة بدفقها على جسد القصيدة، كلّها عوالم تتداخل لتنتج لنا قطعاً فنيَّة تمور بإحساسها العالي وبقيمتها التعبيريَّة؛ لذا ترى الفنانة أن ( اللوحة والقصيدة عالم إبداعي متكامل)، وللفن العراقي المعاصر تجاربه المؤثرة في استخدام الحرف والبيت الشعري في اللوحة، كما في اشتغالات الفنان العراقي ضياء العزاوي ومحاكاته للمعلقات السبع، وكذلك رسومات الفنان فيصل لعيبي، والكثير من هذه التجارب. والفنانة ومنذ تفتح وعيها وبحسّها وذائقتها استطاعت تأمل الأشياء وعلامات المحيط وقراءة مضامينها، ومن ثم تجسيدها على سطح اللوحة، فهي تأمّلت الكثير من "الأشعار السومريَّة" وقرأت أبعادها وموحيات صورها الشعريَّة وجملها الحاملة للحكمة؛ لذا أدخلت الفنانة هذه الأشعار في عدد من لوحاتها عام 2007، مستفيدة من قدرة إلهام هذه الأشعار وسردها وحكاياتها الممتدة منذ القدم.
لينا الناصري توقفت هذه المرة عند القصيدة، حيث الشعر عالم متسع من الخيال والحدس والرؤى، وكانت نصوص المجموعة الشعريَّة "كأس لحياة أخرى" للشاعر العراقي "نصير الشيخ" مساحة خصبة للتماهي بين الكلمة وطاقتها السحريّة وبين اللون وضربة الفرشاة في تناغم جمالي محدث. والذي ترى الفنانة في هذا الاشتغال الذي أثمر مجموعة متميزة من الأعمال بأنّه (فتح أمامها عوالم جديدة ومتنوعة عززت قدرتي على استيعاب المعنى)، وكان حصادها معرضا شخصيا رابعا عام 2020 تحت عنوان "مشروع أيقونات الشعر واللون" في العاصمة الأردنية
عمان.
في أعمال الفنانة لينا الناصري ظل اللون طاقة متجددة، وهو للفنان فضاء سرمدي ينفذ من خلاله الى خيالاته وبكل ما يحمله من طاقة وهاجة، ولأنَّ نفسَ الفنان تعيش حالة اغتراب تارة وحالة مصالحة مع الواقع تارة أخرى، تكون الألوان على سطح اللوحة عالماً ضاجاً محملاً بأبعادهِ الجماليَّة والفلسفيَّة. وهنا يأتي منطوق الفنانة الناصري (وإذا كانت بعض موضوعات لوحاتي ولضرورة الحدث فيها شيء من الحزن يُلامس النفس الإنسانيَّة وكان اللون المستخدم فيها يتلاءم مع الموضوع المطروح فإنّني أحاول غالباً إدخال لون بهيج يكسر حدة هذا الأسى
الموجود).