وداد سلوم*
بعيداً عن التسييس وكثرة الاتهامات والنيل من لجنة التحكيم في جائزة البوكر العربيّة والذي نراه يتكرر كل عام؛ نتساءل عن صوت الرفض الذي يتصاعد بعد إعلان النتائج كل عام، مقابل الاستمرار بتقديم وتكريم النموذج البسيط والمائل للتقليديّة وعدم الالتفات للتجارب الحديثة في الرواية العربيّة، فقد وصل الأمر على مستوى الكتاب المشاركين إلى انسحاب البعض من المشاركة أكثر من مرة كما نجد كل عام الكثير من اعتراض الكتاب قبل القراء عليها كما علت أصوات تعترض على أسلوب عمل اللجنة ذاتها.
فمن الغريب أن تتقدم ذائقة القارئ على تظاهرة أدبيّة عامة ومرموقة عليها أن تواكب مستجدات الابداع وتحتفي بالمتميز منه والذي يشكل قيمة مضافة في الثقافة العربية والإنجاز الروائي والأدبي فالجماليَّة تغتني وتتضح باجتراح الجديد منها وهو ما يحتاج الدعم والتميز.
لا شك أنّ المتعة المرافقة لأي عمل أدبي مطلوبة ومهمة، ولكن على المتعة أن ترتبط باستفزاز الوعي البشري حتى لا تكون عابرة واختيار الجديد المغاير والمستفز ليس فقط بالفكرة، بل بطريقة تقديمها والرؤية التي تبدو دليلا للكتابة وتتحول إلى نور أمام متعة القراءة، حيث يلتقط القارئ الأفكار بأكثر من مستوى ويتميز العمل ويخرج من إطار التوظيف المباشر والتقليدي.
(تغريبة القافر، رواية قريبة للحس الانساني لكنها متواضعة بالنسبة لمستوى الرواية العربية).
هذه المقدمة للدخول إلى الحديث عن رواية «تغريبة القافر» التي نالت البوكر لهذا العام فإذا اعتبرنا أن فكرة الماء جديدة كما أشاد البعض بالرواية كعمل مغاير وليس بهدف الحط من مستوى الرواية التي تبدو قريبة للحس الإنساني، ولكنها في الحقيقة متواضعة بالنسبة لما وصلته الرواية العربية. وقد قرأنا الكثير من الآراء المتضاربة حول أحقية الرواية في هذا الفوز وأستطيع أن أضع بعض الخطوط في هذا السياق ولأنني قرأت الكثير من الملاحظات لن أورد ما تكلم عنه غيري.
تدور الرواية بين حدثين مهمين الأول اكتشاف غريقة في البئر والثاني انجراف ابنها سالم إلى تحت الأرض ووقوعه في مصيدة الماء تسير بينهما الحكاية التي لا تنتهي بغرق مريم، بل تبدأ. وبين الحدثين يبقى السرد هادئاً لا يتصاعد ولا يتجه إلى التعقيد ضمن القالب الحكائي الشعبي لحياة الشخصيات المستمرة فمن حكاية مريم الغريقة إلى حكاية آسيا إلى حكاية كازية إلى حكاية الوعري وغيرها من حكايات متناثرة تتجاور متممة لوحة قروية متنوعة تشكل الطبيعة بيئتها الحاضنة والقاسية تتحرك ضمنها الشخصيات وتحت سلطتها لكنها تغرق في التفاصيل التي لا تنوّع إلا على وتر الفقد والغياب. لتقدم أحيانا عطبا غير مبرر في العلاقات الأصيلة كعلاقة سالم الوعري مع امه التي ماتت بسبب انكارها له بينما لا نعرف تبريرا لتسمم علاقتها به ويبدو ذلك حالة غير مقنعة. لتبدو السلطة الثانية عليهم هي سلطة الخرافات والوساوس والأوهام كالإيمان بالجن الذي يعزو إليه السكان أية ظاهرة ويبدون مقيدين بخوفهم هذا حتى النهاية من دون أي اشتباك معه. ثم لتنتهي الرواية في تمثل لأسطورة الأوديسا بشكل مباشر وبعيدا عن الاشتغال الروائي أو الابتكار حيث يقابل انتظار زوجة سالم بانتظار بنلوبي واستخدامها الغزل تعللاً فيه وكأن غياب اوديسيوس يوازي غياب سالم.
أما ذلك النداء الداخلي الذي يقود الرجال إلى حافة الزهد والتفريط بأقرب الناس فيقدمه الكاتب كحالة غير مفهومة ونحن لا نقترب من حلمها او البنية النفسية لها وتطور افكارها الذهنية وتكوينها النفسي ومعاناتها لنفهمها فلا يقدم لنا تصاعداً في الشخصيات او الأحداث يبرر هذا الترحال. ما يفقد الحدث توظيفه بينما يبدو مكررا كما حدث مع زوج آسيا الذي غادر بحثاً عن النداء الحلم، ولكنه بقي عاملاً في إحدى القرى ناسياً أسرته وزوجته عشرات السنين. ومع والد كازية الذي حمل الطبل وذهب ولن نتحدث عن الكثير من اللا منطق الذي لا تبرره الغرابة سواء في حادثة الانقاذ (شق بطن الغريقة بسكين من قبل كازية) أو الكثير من التفاصيل على مدار الرواية.
استغرق السرد بالوصف واحيانا بالشرح بشكل واضح وخاصة في وصف الطبيعة التي تشكل البيئة الحاضنة التي تتحرك ضمنها الشخصيات وتحت سلطتها لتبدو مستسلمة لها ولتبدو الغرابة غير موظفة إلا في تقبل سلطة الطبيعة ببساطة، وذكر أنواع الماء مثلا!
في الجزء الأخير يصبح السرد اكثر تشويقاً بما حدث مع سالم تحت الأرض رغم أن الإسراع في أخذه لأكل هوام الأرض كان لافتاً فالانتقال من الحياة الإنسانية إلى حالة قبول التخلي عن شروطها يبدو صعباً ويحتاج وقتاً أطول لقبوله ومن ثم تنفيذه كما أنه يبدأ بأكل عنكبوت ضخم من دون التفكير باحتمال أن يكون ساماً.
وتبقى “تغريبة القافر” رواية تتمتع بالسلاسة كأي حكاية، ومن المهم أن يرصد الأدب المخزون الحكائي المتوارث والشعبي لأنه الذاكرة الجمعية التي تنطلق منها كل الفنون ولكن: إن لم تتمايز الرواية عنه للخروج من لبوس الحكاية المكتملة والمصمتة عن التحول والاحتمال بالتقنيات الروائية الحديثة والانشغالات المعاصرة والتي وصلت إليها الرواية من التنوع في أساليب السرد وتقنياته المختلفة والتجريب الذي فتح الباب واسعاً للتخييل والبناء الروائي الغني بالتشظي الزمكاني والروحي والفلسفي والتنوع الذي يمنح الحكاية طاقة التحليق من الحكي إلى الفن الزاخر بالفكرة اولاً متجهاً لاجتراح اساليب تستفز وعي القارئ وترتفع بالذائقة الثقافية والجمالية لن تكون اكثر من حكاية.
* شاعرة وكاتبة سورية