قسوة الحرب في «الهوتة»

ثقافة 2023/06/08
...

 سريعة سليم حديد

«الكتابة لا شيء سوى رعشة الألم الخفية التي نخبئها عن الآخرين، حتى لا يلمسوا حجم المأساة وجحيم صرخات الكلمات المذبوحة بنصل صدئ» هذا ما قاله الروائي الجزائري واسيني الأعرج. والسؤال الذي يحضرني هل خبأت الكاتبة السورية نجاح إبراهيم، كماً من الكلمات الغارقة في الألم في روايتها التي بعنوان: «الهوتة» فقد رصدت أهوال الحرب التي دارت على الأرض السورية، وما نتج عنها من ظلم وقتل وتدمير وضياع. الرواية نالت جائزة «حنا مينة» الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2021.

ــ قد يبدو عنوان الرواية «الهوتة» غريباً بعض الشيء، ولكن الانفتاح على الأحداث يجعل منه عنواناً مهماً ومناسباً جداً لها. الهوتة بالمعنى اللغوي تعني: الأرض المنخفضة والطريق المنحدر إلى الماء. هي موازنة ما بين انحدار الأوضاع في سورية نتيجة الحرب التي عاشتها شخصيات الرواية وبين الهوة الحقيقية التي راح «داعش» يرمي بها الناس تحت طائلة العقاب.
جاءت الرواية بصوت راوٍ واحد فقط صوت «حامد» الشاب الصحفي الذي لم يستطع أن يسكت قلمه عن الأخطاء التي كانت تحدث حوله، ونتيجة جرأته تعرض للاغتيال ومن ثم للسجن، الصوت الذي سرد الأحداث بقهر ودموع ساخنة، بموازاة مع تصاعد وتيرة الحرب والمفاجآت
المدهشة.
شخصية حامد الشاب الرقيق العواطف الذي كان يتفاعل مع الأحداث بانبهار وحرقة لما عاناه من ظلم، وخاصة عندما تعرّض للسجن ومن ثم الاغتيال، والمنقذ له حبيبته لمياء التي كانت رقماً مهماً من بين العديد من أرقام النساء اللواتي أحبهن
وعاشرهن.
ــ شخصية لمياء الشابة الجميلة القصيرة القامة، استطاعت بطبيعتها الأنثوية أن تؤثر على حامد وتنقله من جو اليأس والانهيار إلى جو التفاؤل، وقد أنقذته من الموت بجرأتها الكبيرة وقت تعرضه للاغتيال، فنقلته في السيارة إلى المشفى متجاوزة حواجز المسلحين وأمطار الرصاص والقذائف من حولها. لمياء التي تعمل في مجال التجميل، نقتطف:
«الممثلون يا حامد يسلمون وجوههم لأصابعي لأشكل منها وجوهاً بعدما أقرأ ملابسات الشخصيات، تخيل حتى الحوار أطلع عليه. المكياج يسهم في ظهور الحالة النفسية للشخصية.. من بين يديَّ يخرج المجرم والعاشق والوسيم
والحاقد...» ص58
ــ شخصية بَهار: الفتاة الكوردية التي حركت حقيقة مسألة التشويق إلى ذروتها قرابة منتصف الرواية، فبدأت تسرد قصتها حين سيقت سبية مع العديد من نساء «قيبار» إلى الموصل، وشهدت الصراع الفعلي مع رجال داعش في اغتصاب النسوة، وحين انتهى بها المطاف إلى الداعشي الشيخ منصور، ساعدها أحد المزارعين على الهرب، وخاصة في الابتعاد عن حفرة الهوتة تلك الحفرة التي ابتلعت المئات من الناس بلا رحمة من الدواعش.
ــ شخصية أنوتة المرأة التي أحبها حامد قبل سفره بل وقبل سجنه الذي تعرض له من دون معرفته سبب ذلك الاعتقال. وعندما أهداها زجاجة عطر وعلبة طلاء أظافر أثار غيرة الحاسدات من الفتيات اللواتي حولها، نقتطف: «بينما تشتعل فضة بغيظها: أتراه حامد جلب لك هذا من
 الشام؟!
هذه الجملة التي نطقت بها فضة كافية لأن تثير زوبعة وخلخلة في المكان، بل في القرية كلها، وأن تفتح بصيرة الأعمى.» ص 48 أنوتة التي قتلت بسبب معرفة أهلها بمسألة التقائها بحامد سراً في منزلها، وعلى إثرها فرَّ حامد من القرية إلى
دمشق.
كما تعددت الأسماء الكوردية التي شهدت مأساة الأكراد مثل قرية الصخرة ومدينة «قيبار» ومزار الملك آكدي والمتصوف شيخادي والفتاة ألماز التي ماتت على يدي أحد «الدواعش».
ــ هناك طريقة انسيابية عفوية اعتمدتها الكاتبة في الانتقال من شخصية إلى أخرى، بحيث تظهر الشخصية الجديدة رويداً رويداً على مسرح الأحداث وبشكل عفوي، وذلك عبر حالة من التذكر أو الحلم أو ما تيسره الأحداث، فلا نشعر بفجاجة دخول الشخصية مسرح الرواية بل على العكس
تماماً.
كما تنتهج الكاتبة إيضاح معالم شخصيات الرواية بين الفينة والأخرى، مما يجعل مسألة تعدد الشخصيات تسير في الوجهة المناسبة بعيداً عن الضياع والتشتت
والإرباك.  
ــ لم تأتِ مفاصل الرواية على شكل عناوين، بل جاءت مروسة بأرقام وصولاً إلى الرقم سبعة، ولكن الخاتمة وحدها جاءت بعنوان «الضباب» فقد اختارته الكاتبة لتدلل على وضع البلاد الذي ما يزال غير مستقر حتى الآن. فقامت باستعراض الخاتمة عبر حالة حب حامد للفتاة بَهار بطريقة رومانسية ألبسته ثوب الجنون، فراح يسكب زجاجات «الكالونيا» على الدرج المؤدي إلى شقة حبيبته بَهار للتعبير عن مدى عشقه لها، ولما وصل وطرق بابها لم يجدها، فجن جنونه، ثم ظهرت أمامه من جديد، وقد أحضرت له هدية بمناسبة عيد الحب، وخرجت معه في الجو البارد إلى «مول» قريب لشراء الدباديب احتفالاً بعيد «الفالنتاين»، لكنها تضيع منه مرة أخرى في
 الضباب.
ــ جاءت الرواية مفعمة بالمواقف الرومانسية وبلغة شفيفة جذابة مكنت الكاتبة من رسم الأحداث بدقة على الرغم من
 قساوتها.