قراءة جديدة لاتفاقية الجزائر 1975

بانوراما 2019/04/24
...



 
 
ترجمة: مي اسماعيل
 
زار الرئيس الايراني حسن روحاني العراق خلال شهر آذار الماضي، وكانت تلك أول زياراته الرسمية للبلاد. بدت تلك الزيارة تأطيراً لتقارب جديد بين الدولتين، واعلان رئيس الوزراء عادل عبد المهدي” عن توقيعه والرئيس الايراني عدة اتفاقيات للتعاون في قضايا مثل أمن الحدود والتنمية الاقتصادية. لكن قرار الطرفين بالعودة الى اتفاقية ترسيم الحدود (التي تعود لأربعة وأربعين عاما)ً حظي بأكبر قدر من الاهتمام داخل العراق؛ تبعاً لدلالاتها التاريخية والثقافية الكبيرة. 
فقد قرر البلدان تغيير الحدود البرية والبحرية بينهما، استناداً الى الشروط الأصلية الموضوعة ضمن اتفاقية الجزائر، الموقعة سنة 1975. ويعني هذا التغيير بالنسبة للعراق التخلي عن بعض الأراضي والمياه التي سيطر عليها لعقود؛ وأهمها ممر شط العرب المائي الذي كان يمثل لوقت طويل الخط الفاصل بين العالمين العربي والفارسي. 
من السهل ادراك ان توقيع تلك الاتفاقيات أزعج بعض العراقيين؛ الذين يخشون من “نتيجة تكون لهم فيها ميزة أقل من الطرف المقابل”؛ مقارنة بالجار الايراني. لكن العراق في الواقع (ورغم مخاوف مواطنيه) سيستفيد أكثر مما يخسر من العودة الى الاتفاقية، خلال المدى القصير.. على الأقل. لكن هذا لا يخلو من المجازفة بازعاج أعداء ايران. 
رمز لتاريخ عنيف
يعترف إحياء اتفاقية الجزائر 1975 بأن العراق وايران يقفان عند الموقع نفسه قدر تعلق الامر بواحدة من أكثر القضايا التاريخية اثارة للخلاف بينها المتمثلة بترسيم الحدود على ممر شط العرب المائي. 
وكان الجدل على امكانية الوصول الى شط العرب (حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات) سابقا لتأسيس دولتي العراق وايران الحديثتين؛ حينما كانت الامبراطورية العثمانية تصدر التمور من مزارع النخيل الممتدة كيلومترات عديدة على جانبيه طيلة القرن التاسع عشر. لكن الخلاف حول شط العرب أصبح أكثر اثارة للمشاكل، خاصة بعد اكتشاف النفط في العراق أواخر عشرينيات القرن الماضي؛ إذ رغبت بغداد في الاحتفاظ بحرية الملاحة على ذلك النهر لأجل بناء قطاعها النفطي. ثم وقع الطرفان اتفاقية الجزائر سنة 1975 لتسوية خلافاتهما الحدودية البحرية والبرية المختلفة. وقد عرضت ايران سحب مساعدتها العسكرية للأكراد، الذين كانوا يخوضون نزاعاً عنيفاً مع حكومة بغداد، مقابل حصولها على نصف مسار شط العرب المائي، ما يمنحها حرية الوصول الى موانئها الرئيسة التي طورتها لتعزيز صادراتها النفطية. وقد خففت الاتفاقية من الاعمال العدائية بين البلدين لسنوات؛ حتى جاءت الثورة الايرانية سنة 1979 بحكومة جديدة وحولت ديناميكيات السلطة ثانية. وهذا قاد لتعليق الاتفاقية بعد فترة قصيرة؛ وبقيت متوقفة التطبيق حتى السنة الحالية. نتيجة لذلك صار شط العرب موقعاً لحرب عنيفة بين بغداد وطهران خلال ثمانينيات القرن الماضي؛ واليوم هو مقبرة لسفن وقطع بحرية ايرانية وعراقية غارقة. 
 
فهم مبررات العراق
حينما جرى توقيع اتفاقية الجزائر 1975 للمشاركة في شط العرب على قدم المساواة؛ حاز البلدان منافع متبادلة. لكن هذا النهر يحمل اليوم (كما يبدو) أهمية ستراتيجية للعراق أكثر منها لإيران؛ فبينما توجد موانئ ايرانية مهمة اخرى لتصدير النفط على سواحل الخليج، يبقى شط العرب واحداً من ممرات العراق المائية القليلة الى الخليج، ومصدر المياه العذبة التي تحتاجها المزارع والمصانع المنتشرة على امتداده. وهذا يثير التساؤل عن سبب تنازل بغداد طواعية عن أي منفذ وصول لهذا النهر الحيوي باعادة تفعيل اتفاقية الجزائر. 
لكن النظر بتمعن يوضح أن التنازل رسمياً عن بعض حقوق المرور في النهر لا يعرض أيا من حقوق العراق الاقتصادية الاساسية للخطر. فتقاسم جزء أكبر من النهر مع ايران لن يحد من أي نشاط للعراق في أهم قطاعاته: انتاج النفط؛ مع ملاحظة أن الغالبية العظمى للنفط العراقي يُصدّر عبر الانابيب الى محطات تقع بعد الفاو على الخليج. كما أنه لن يؤذي قدرة العراق على تصدير شحنات اخرى؛ طالما ان أغلب الأغذية والبضائع الاخرى تُشحن الى ميناء مدينة أم قصر (الواقعة على الحدود مع الكويت). 
والحقيقة ان تقاسم شط العرب يمكن أن يسفر في النهاية عن صفقات تجارية أكثر فائدة للعراق؛ والمساهمة في تعزيز النوايا الحسنة مع ايران. ولعل الأهم ان العراق يعرف أيضاً حاجته لمتابعة مشاريع تنموية على مسار شط العرب للمساعدة بإحتواء الاضطرابات التي يغذيها البعض في البصرة؛ والتي تهدد قبضة بغداد على الثروة النفطية (المطلوبة بشدة). ولكي يتحقق ذلك يدرك العراق انه بحاجة لتطوير علاقته الجيدة مع ايران؛ وخاصة الشركات الايرانية. 
ومن جهة أخرى، تهدد المياه المالحة في العراق مزارع الخضراوات والفواكه الغنية؛ وزادت مواسم الجفاف المستمرة من صعوبة ادارة المياه بالنسبة للسلطات المحلية والاتحادية. ولتعويض قطاعه الزراعي النامي؛ بات العراق أكثر اعتماداً على واردات الاغذية الضرورية من ايران؛ خاصة مناطق حدوده الجنوبية (مثل البصرة). ورغم أن البلد اتخذ خطوات أكثر استقلالية لانتاج الغذاء؛ ما زال أمام الحكومة طريق طويل قبل أن تفكر بتقليل اعتمادها على الواردات الزراعية الايرانية.
ان زيادة التعاون بشأن منطقة شط العرب يسهل مساهمة الشركات الايرانية بتنظيف المجاري المائية عالية التلوث والشوائب؛ ما يحسن نوعية المياه المالحة المضرة للانتاج الزراعي العراقي حالياً. وبالفعل؛ كانت الخطوة الراسخة الاولى التي اتخذها العراق منذ اعادة تفعيل اتفاقية الجزائر هي تأسيس لجنة لتنظيف بعض المجاري المائية، بتجريف أجزاء من القناة المائية وتطوير بعضها في نهاية المطاف. 
 
أصدقاء جدد.. مشاكل جديدة
بغض النظر عن الفوائد الاقتصادية المتوخاة لشط العرب على المدى القريب؛ فإن اعادة تفعيل اتفاقية الجزائر بعد 44 سنة؛ حدث يقف بحد ذاته كدليل على مستوى التقارب الحالي بين إيران والعراق؛ ويمكن أن يحمل آثاراً جيوسياسية طويلة المدى بالنسبة لبغداد. فالولايات المتحدة (على الأقل) لن تتعاطف مع تناغم العراق مع خصمها الأساسي في المنطقة؛ وهذا قد يضع بغداد وسط موقف أكثر حراجة بينما تحاول الموازنة بين ضغوط العقوبات الاميركية ضد ايران والحفاظ على التواصل مع أحد أكبر موردي الاغذية والبضائع الى العراق.  
على المدى الطويل قد يخلق اعادة تفعيل المعاهدة مشاكل اخرى لعلاقة العراق بجارته الخليجية الأخرى: الكويت. فبين العراق والكويت جدلية طويلة حول التطوير المشترك لمنشآت الموانئ في الفاو والحدود البحرية غير المتفق عليها بين دولتين لا يمكن الوثوق بشكل العلاقة بينهما. وقد تثير رغبة العراق بتثبيت اتفاق الحدود البحرية مع ايران قلق الكويت (ودول خليجية اخرى تعارض ايران)، ويؤججه مستوى التقارب الجديد الظاهر مع ايران. 
على نطاق أوسع جاء توقيع الاتفاقية تأطيراً لقبول العراق بالتنازل سياسياً لإيران عن قضية خلافية كسباً لمصلحته الاقتصادية؛ وبالمثل تأتي قدرة ايران للضغط على جارتها بسبب اعتماد بغداد على طهران للدعم الاقتصادي والأمني. نتيجة لذلك قد يجد العراق أن علاقته المزدهرة مع جار مثير للجدل ستعقد موقفه السياسي (الصعب بالفعل) مع جيرانه الاقليميين وحلفائه الغربيين.