محمود عبود
عُرض مؤخرا ضمن برنامج أفلام بورتريه الفنان بالدورة الـ 24 لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام الوثاقية والقصيرة، الفيلم التسجيلي الطويل "بيروت برهان" سيناريو وإخراج فرح الهاشم، وهو إنتاج كويتي لبناني مشترك، جاء ذلك بعد عدة عروض في مهرجانات بعض العواصم العربية، اذ حصل على جائزة أفضل فيلم في مهرجان القدس السينمائي.
تدور فكرة الفيلم الرئيسة حول قيمة ومكانة المخرج اللبناني الرائد الراحل برهان علوية ـ عاش بين عامى1941- 2021 وعلاقته ببيروت عاصمة وطنه، حيث أوضح الفيلم أن "برهان" قرر العيش بمنفاه الاختياري في بلجيكا، لأنه كان يؤمن أن الوطن هو المكان الذي يُؤَمنُ للمواطن احتياجاته، ولان بيروت لم توفر له ذلك، ففضل أن يرحل عنها لكنها كانت باقية فيه.
دخلت مخرجة الفيلم، إلى عالم "برهان علوية" من أوسع أبوابه، وهو نضاله ودفاعه عن قضية العرب الأولى "فلسطين"، ولما لا، وقد أخرج أحد أهم الأفلام التي تناولت القضية الفلسطينية، وهو الفيلم الروائي الطويل "كفر قاسم " في عام 1975، الذي تدور أحداثه عن أدق تفاصيل كواليس المذبحة الشهيرة، التي ارتكبتها الصهاينة في قرية كفر قاسم بفلسطين عام 1956 وراح ضحيتها (49) مدنيا عربيا منهم (23) طفلا.. هذا الفيلم صنف "برهان علوية" على أنه المناضل بالفن
"كفر قاسم" كان سبّاقا على مستوى الابتكار السينمائي، اذ مزج الروائي بالوثائقي في توليفة فنية ندر تكرارها على الشريط السينمائي العربي.
واتساقا مع الخطين الدراميين (برهان وبيروت)، اللذين اعتمدتهما المخرجة الشابة الواعدة فرح الهاشم، كعلامات طريق في سردها الدرامي، حيث ألقت الضوء ، من خلال أحداث فيلمها على بعض أهم أفلام "برهان علوية" الأخرى، خاصة تلك المرتبطة ببيروت ولم تقف عند هذا الحد، بل تماهت الهاشم مع بعض شخصيات برهان السينمائية، لدرجة لا تصدق، فقد تقمصت ومثلت في بداية فيلمها، شخصية شاب فلسطيني فار من نيران المحتل الإسرائيلي، تاركا أمه بكفر قاسم، وهو يحدثها عبر الإذاعة ليطمئنها عليه ـ وهي شخصية استوحتها من أحداث فيلم "كفر قاسم"، لكن تلك الشخصية لم تظهر أصلا بالفيلم نفسه، وفي الوقت نفسه كانت متسقة تماما مع الأحداث ـ، ثم عرجت الهاشم على علاقة حب ـ شديدة الخصوصية ـ بين (حيدر) و(زينة) بطلي فيلم "بيروت اللقاء"، راغبة في معرفة بعض التفاصيل، التي دارت بينهما، ولم ترد بالفيلم، وكأنهما شخصيتان واقعيتان، ما زالا يعيشان بيننا، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن فرح الهاشم تمنت: لو أنها استطاعت تغيير نهاية قصتهما على عكس ما ورد بأحداث الفيلم، كي يبقى الحبيبان مع بعض إلى الابد ..ليبلغ هنا تماهيها مع سينما "برهان علوية" ذروته!
استعانت المخرجة، بالعديد من الشخصيات التي لها علاقة وثيقة مع بيروت من ناحية، ومع علوية من ناحية آخري.. فقدم كل منهم شهادته على المكان والفنان.. فرأينا تيريز سعادة الناشطة اللبنانية التي استرجع الفيلم معها أبرز مراحل وعلامات النضال العربي، الذي نبع جزءا أصيلا منه من قلب بيروت.. ثم شاهدنا بعض رفقاء برهان علوية الذين شاركوه أفلامه مثل: الممثل محمد كلش، وأحمد بيضون، وهيثم الأمين، الذي أدى شخصية حيدر في فيلم" بيروت اللقاء"، والذي فاجأ المشاهدين بقوله: "أنا أكره بيروت"، معللا ذلك بأن ابن أخيه الشاب استشهد في انفجا مرفأ بيروت عام 2020.. لكنه في نهاية حديثه، قال: "هذه الكراهية وقتية.. وليست أبدية"، وهنا تذهب المخرجة بالكاميرا إلى جدارية ممتدة حول مرفأ بيروت مكتوب عليها بعض أسماء شهداء الحادث الأليم.
لقد غاص فيلم "بيروت برهان" في أعماق فترة تاريخية من أهم فتراتنا العربية في العصر الحديث، ألا وهي مرحلة الحراك العروبي وما استتبعته من معارك فكرية وميدانية من أجل الوحدة والوطن والحريات، واتخذت مخرجته من فن السينما باعثا ومرشدا، بل وجنديا من أهم جنود تلك المعارك.. ذكرتنا بالثوابت التي لم تغب عن العقول والقلوب البهية.. لذا لم يكن مستغربا أن تُضمن فيلمها مقطعا صوتيا لـجمال عبد الناصر اثناء خطاب تأميم قناة السويس 1956كجزء من أحداث "كفر قاسم".
أما على مستوى إيقاع الأحداث والمونتاج، فبرغم براعة تنفيذ عناصر الفيلم الفنية، إلا أنه يبقى كأي عمل إنساني قد تعتريه بعض الشوائب، ومما يعاب على الفيلم إطالة المدة الزمنية لبعض اللقاءات الواردة به، والتي لو اختزلت لكنا أمام عمل نموذجي إلى حد كبير.
نجحت فرح الهاشم في اختيار موسيقى وأغنيات عربية، بأصوات مصرية ولبنانية وغيرهما، كانت الأكثر تميزا وتأكيدا، على فكرة فيلمها الرئيسة مثل أغنية "ألو بيروت" للشحرورة صباح، وأغنية "أمانة عليك يا ليل طول" لكارم محمود، واغنية"سنرجع يوما إلى حينا" لـفيروز.
إن فيلم "بيروت برهان" لم يكن ينعى رحيل المخرج علوية، انما نعى أيضا بيروت الرمز والوطن والذكريات والهوية.