الصواب والثواب والخطأ والعقاب
محمد جبير
قد تبدو هذه العتبة مرتبكة عند المتلقي، ولا تنسجم مع السياق العام المتداول الذي نصّ على ثنائيَّة «العقاب والثواب والخطأ والصواب»، هو ما اتفقنا عليه جميعا من دون أن تكون أو تدخل عليه إجرائيات خلخلة البنية اللغوية للنصّ، لذلك قد يرى المتلقي خللا في البنية اللغوية للعتبة، لكن لنترك الأمر اللغوي، ونذهب إلى السرد، ونقول يجوز لمنتج النصّ السردي ما لا يجوز لغيره في خلق بنيات نصية مغايرة، تزيد من جمالية البنيات الحكائية المتقاطعة مع السائد العام، على الرغم من أنها نتاج الواقع.
سلبنا تضادّ المعنى في سردية نصّ العتبة من جملة الثنائيات السياقية، ووضعنا بدلًا عنه التقابل في المعنى، في هذه الخلخلة اليسيرة صار لدينا نصّ جديد مبنيّ على أنقاض تفكيك النصّ السائد، من هذا المنظور يمكننا أن ننظر إلى النصّ السردي على أنّه نصّ مشيد على مجموعة نصوص مفكّكة ومتداخلة، لتنتج نصّها الخاصّ في لحظة التجلّي الخاصّة، حيث تنتج لحظة الكتابة نصّها الذي تريد له أن يكون ولادة جديدة لكائن حيّ ومتجدد، بينما تكون الحكايات والوقائع اليومية أشبه بالمتحجّرات التي تسرد واقعًا مضى، وتحتاج عينًا خبيرة وقارئًا ذكيًّا يجيد فكّ طلاسمها وإعادة إنتاجها من جديد.
لكن ليس كلّ ما ينتجه الواقع يمكن أن يكون صالحا لإنتاج حكاية سردية، إذ إنّ لهذا الإنتاج اشتراطاته الخاصّة، وأولى هذه الاشتراطات وأسّها الإبداعي الخيال الفنّي، هذا الخيال الذي هو شبح الكاتب، هو الخيط الرفيع الذي ينظّم العلاقات السبيبة داخل الحكاية السردية، ويقودها إلى ذروات ماسكة بالمتلقّي لفكّ محتويات الصندوق السردي.
هذا الصندوق السردي هو أشبه بخزّان الحكايات الذي يفيض بمسروداته كلّما توقّفنا عند جملة ابتداء تفتح آفاقًا جديدة في فضاء حكاية وليدة من رحم حكاية محيطة بنواة الحكاية المركزية التي تتواشج مع تلك الحكايات، لحياكة نسيجها السردي داخل نظامها الخاصّ المنتج من فعل السرد ذاته، وليس من خلال نسيج سردي مستعار من نصوص سابقة، فكلّ حكاية تلبس لبوسها الخاصّ، ولا تقبل بلباس الآخر.
في جملة الابتداء سر انسياب تفاصيل الحكايات الوليدة، هذه الجملة تبدأ، ولا تنتهي بانتهاء جملة الختام في النصّ، وإنّما تعيد بعث الحياة فيها، ليتجدّد تفكيرنا، ويتشكّل على منحى مغاير مختلف عمّا تشكّل أثناء فعل القراءة، حيث تنير جملة الانتهاء في النصّ التوقّفات المظلمة في النصّ، ونعيد ربط وتشكيل التفاصيل، وبناء وتأسيس على ما اتّضح وغمض من تفاصيل، ليكون تشكّل الصورة النهائية أكثر إشراقًا وإضاءة، ممّا تشكّل من هشيم الصورة الأولى.
في نصّ «الادميرال لا يحب الشاي» للكاتب نزار عبد الستار يشكّل اختيار الجملة السردية نصًّا سرديًّا بجناحيه خارج النصّ وداخله، في تجانسه مع نصّ العتبة والشاهد النصّ في الغلاف الثاني للكتاب، فإنّه من الطبيعي أن يكون الادميرال من غير عشّاق الشاي، فهذا الفرنسي - وذلك لما توحيه هذه الصفة البحرية - المغامر في البحار العميقة، إذ تفتح هذه العتبة مع صورة الغلاف للبحّار بلحيته ومسكه للبايب على نمط استقراطي يليق بالادميرال، بمعنى أنّنا أمام نصّ سيعرض تفاصيل حكايات لن تدور على أرض محلّية، ولا تحمل تجارب قد تنتمي للمتلقّي من قريب أو بعيد، لكن ما الذي يدفعك إلى قراءة هذا النصّ الذي لا يدغدغ مشاعرك افتراضا، أو يحفّزك على القراءة من خلال إثارة ما يمكن لتنشيط فعل الاقتناء، ومن ثَمّ القراءة؟!.
قد لا يتحفّز القارئ العادي لهذه العتبة، ويعدّها من الاستعارات من الروايات المترجمة، أو أنّها سوف تكون ضمن النسق العام للروايات المترجمة، أو تلبس ثوب تلك الروايات بعد أن ينزع عنها الكاتب ثوبها الوطني، لكنّ القارئ النوعي الذي سبق أن تعرّف على الكاتب في أعمال سرديّة وقصصيّة وروائيّة، يذهب مع هذه العتبة لاكتشاف ما هو جديد في التشكّل السردي، الذهاب تجاه النصّ هو أيضا في طبيعته مغامرة قرائية في بحر الحكايات المتلاطمة التي وضعت بين دفّتَي الكتاب.
في تظهير الكتاب نقرأ النصّ الآتي «مطلع 1850 تخلّت الباخرة كلايف المقبلة من بومباي عن خمسة صناديق شاي في ميناء البصرة، حيث يقضي الادميرال لانكستر عقوبة النفي، تبدأ سياسة الترويج للشاي بالتوازي مع سلسلة من الاغتيالات لهولنديين يتاجرون بالقهوة، حتى بات المشروب الأوّل في الجنوب العراقي، في زمن الاحتكار واستعباد الشعوب والمتاجرة بأجساد النساء، نسجت هذه الرواية بخيوط بين الحقيقة والخيال، وفي طيّاتها تأوّهات المستضعفين وصرخاتهم المكتوبة».
هذا النصّ هو ما يحفّز القارئ على المضيّ في مغامرة القراءة، مرتكزًا على الثقة في قدرة الكاتب على إنتاج نصّ سردي يمتلك مواصفاته الخاصّة، استنادًا على تجارب قرائيَّة سابقة مثل «ليلة الملاك، الأمريكان في بيتي، مسيو داك، يوليانا»، وتجارب أخرى بين السرد القصصي والروائي»، هذه الثقة بالكاتب عنصر فعّال من الفواعل المحفّزة لفعل القراءة، والتي تدفع إلى البحث عن محفّزات أخرى في النصوص المحيطة التي تشظّت من أصل الحكاية السردية، حيث يعزّز الشاهد النصّي في ص5 ما جاء في تظهير الناشر لهذا الكتاب السردي «الباخرة كلايف، القادمة من بومباي، تتخلّى يوم الجمعة 4 يناير1850 عن 5 صناديق شاي في ميناء البصرة قبل أن تبحر إلى لندن».
تفصيل: في هذا الشاهد النصّي تكرار وتفصيل في المعلومة السردية التي يريد منتج النصّ بثّها إلى المتلقّي، هذه التفاصيل، سواء كانت رقمية أو مكانية أو سببية، فإنّها تحرّك جمود الجملة السردية في نصّ التظهير، ومنح الحيوية السردية على ذلك النصّ من خلال إضافة تلك التفاصيل، وهو الأمر الذي يحفّز المتلقّي للانتقال إلى جملة ابتداء النصّ.
حملت جملة الابتداء عتبة نصّية هي «الأدميرال في المنفى»، والذي استهلّ بحوارية بين الادميرال وتابعه بغية الإخبار عمّا حدث ليلة أمس، بمعنى حواريّة استرجاعيّة لتفاصيل سابقة أقوم بتثبيت نصّها للضرورة:
«- براين ليس، يا عقل الأرنب، من أطلق النار على رأس السيدة بريطانيا؟
وصله الصوت، من الخلف، هرمًا، وفيه نفحة عفونة:
- أنت ياسيدي الأدميرال، فعلت هذا بعد أن عدنا من حانة ماريكا.
فتح الأدميرال ذراعيه مستغربًا:
- لماذا؟ ما حكمة هذا الغباء؟
جاءه الصوت متعثّرًا بالتردّد:
- أردت تجربة مسدس كولت الذي سرقته من القنصل الهولندي هنريك هويت». الرواية ص7.
هذا المفتتح الحواري يحمل في طيّاته مخبوء الحكايات السردية اللاحقة، والتي ستكشف للمتلقّي طبيعة الخدمات التي قدّمها الأدميرال للشركة البريطانية وللتاج الملكي، وهي جملة من حكاية المغامرة الفردية أو الجماعية التي تشبه التوابل السردية التي تمنح طعمًا ونكهة خاصّة على المتن الروائي الذي امتدّ على مئتين وثلاثة وستين صفحة.
ففي هذا النصّ الافتتاحي نكتشف الآتي:
أولًا: إطلاق نار على صورة الملكة.
ثانيًا: اعتراف من الادميرال أنّه فعل غبي.
ثالثًا : وجود تنافس وصراع بين الادميرال والقنصل الهولندي.
رابعًا: التنافس سيتّضح لاحقًا في السيطرة على سوق البصرة بين القهوة والشاي، وهو صراع إرادات استعمارية هولندية بريطانية.
خامسًا: إطلاق النار تمّ بمسدس كولت هولندي، وليس صناعة بريطانية، وهذا يعدّ خيانة عظمى.
نعود إلى بداية تمهيدنا، ونؤسّس تفصيلا عليها من منشئيات هذا النصّ السردي، حيث يفترض هناك واقع، وهناك وقائع سردية تحدث في المكان (الولادة والمنفى/ البصرة)، وفي المكان (المغامرة/ بومبي)، ومكان (الحياة/ لندن)، ولكلّ مفصل من هذه المفاصل الحيوية صندوق حكاياته الخاصّة التي سوف تقودنا إلى جملة ختام النصّ التي نصّت على «مدّ شينغ يده وأخرج من ردائه المنطوي مسدس كولت صوبه إلى رأس الأدميرال قائلًا:
- هذا لأجل الصينيين الذين قتلتهم بالأفيون سيدي الأدميرال.
بقي عزيز ثابتًا في مكانه:
أعرف هذا المسدس.
تقدم شينغ، ويده ترتجف حتى لامست فوهة المسدس جبين عزيز الذي حافظ على ثباته خشية أن تتأذى بدلته الأدميرالية، وقال، وهو ينظر في عينَي شينغ:
- يبدو أنّ السيدة بريطانيا لم تسامحني”.
“الرواية ص263”.
هنا يلتقي الخطأ “الغباء في إطلاق الرصاص على السيدة بريطانيا”، مع العقاب في وضع المسدس على رأس “لانكستر أو عزيز”، واعترافه بعدم مسامحته على فعلته الغبية تلك، على الرغم من الخدمات الجليلة للتاج، في المقابل يكون الثواب من قبل القنصل البريطاني للدبلوماسي الصيني الذي يمنحه المسدس الذي انطلقت منه الرصاصة على صورة السيدة بريطانيا، لتنطلق مرّة أخرى إلى رأس الجاني ثأرًا للصينيين الذين قتلهم الأفيون الذي كان يتاجر به عزيز أثناء إقامته في بومباي.
هكذا تكون جملة الختام تفسيرًا وتوصيلًا وختامًا لجملة ابتداء النصّ التي تكشف عن مهارة الكاتب في إدارة الحدث السردي، وسيطرته التامّة في إدارة الأحداث التي تعشق بين الواقعي والخيالي والوقائعي التاريخي مع الوقائعي الخيالي.