السلطة والكآبة.. لماذا لا يضحك الشعب؟

ثقافة 2023/06/14
...

علي العقباني

في إحدى حلقات المسلسل السوري ذائع الصيت “ضيعة ضايعة” الذي كتبه الدكتور ممدوح حمادة وأخرجه الليث حجو منذ ما يقرب من 15 عاماً يُصاب أهالي ضيعة “أم الطنافس الفوقا” بداءٍ غريبٍ أسماه رئيس المخفر “ظواهر مدهشة”، فالشعب لم يعد يبالي بشيء وأصبح أي شيء يحدث أمامه عادياً ولا معنى له..

 فلا “جودي” “باسم ياخور” عاد يرغب بسرقة دجاجات “أسعد” “المرحوم نضال سيجري” والتي اعتاد يومياً على سرقتها، ولا أسعد عاد يأبه لذلك، سرق أو ما سرق مثل بعضها، وجودي فقد الرغبة في فعل أي شيء لجاره أسعد، حتى العاشق الولهان “سليم” “فادي صبيح” لم يعد يهتم إنْ أجابت حبيبته “عفاف” “رواد علليلو” على ندائه من تحت شباكها أم لا، وهي كذلك لم تعد تكترث أو يعنيها إنْ مرَّ سليم وانتظر تحت الشباك أم لا وهي تقول “لاجري”، بينما المختار “زهير رمضان” لم يعد يرمي الحجارة على العاشق ويراقبه ويتابعه بل ويضربه أيضاً، يجلس على كرسيه أمام منزله بشرودٍ تام، وهكذا كل سكان القرية يمشون ويتحركون بلا معنى أو هدف أو غاية، لا شيء يبهج أو يُفرح ولا شيء له قيمة، حتى صاحب الدكان الوحيد “صالح” لا يهتم إنْ سجل ما أخذه “حسان” شرطي المخفر من أغراض على الدفتر أم لا، حتى المخبر وكاتب التقارير”عويدل الفساد” لم يعد يكترث بشيء ولا يكتب لفوق أي تقرير، ولا يراقب أحداً، لا شيء له معنى ولا شيء له قيمة أو بهجة أو جدوى.
القرية بأكملها تدخل في ظاهرة غريبة، الأمر يقلق السلطات المحليَّة في القرية، فرئيس المخفر “أبو نادر” “جرجس جبارة” يعجز عن فعل شيء، ما يستدعي تدخل جهاتٍ أعلى وأعلى لجعل الشعب يبتسم ويبدو سعيداً أمام كاميرات السياح الذين صوروا أهالي القرية في عبوسٍ وتجهمٍ أقلقا السلطات العليا.
الاقتراح الأول يكون بأنْ يُرفعَ الشعب فلقة “وسيلة تعذيب واعتراف تستخدم في البلاد العربيَّة” ليعترف لمَ هو لا يضحك ولا يهتم بأي شيء، ولماذا هو على هذه الحال من اللامبالاة والشرود، لكنَّ الشعب يخلع أحذيته ويصطفَّ حسب الأحرف الأبجديَّة استعداداً للفلقة، أما الحل الثاني فيكون بإلقاء الخطابات الحماسيَّة والثوريَّة العصماء عليه، لكنَّ الشعب لا يأبه للصراخ والشعارات وتصفيق رجلي المخفر، ويصفق بسخرية شديدة، فيكون الحل بعرض الشعب على الطبيب “محمد آل رشي” الذي يقرُّ بسلامة الشعب العضويَّة أو البيولوجيَّة، لكنه يقول للمسؤول ربما يكون الشعب بحاجة لعلاج سايكولوجي أي نفسي، يسخر رجل الأمن “الياهما لالي” من الأمر، ويكون الحل بإعطاء الشعب حقناً للسعادة، يعود الشعب الى القرية على ظهر التراكتور يغني ويرقص، وصباح اليوم التالي يذهب مفعول الابرة ويعود الشعب الى حاله.
علينا أنْ نجعلَ الشعب يضحك، لا أحد من المسؤولين ورجالات السلطة والمعنيين سأل لماذا فقد الشعب حسَّ الدهشة والضحكة والابتسام، لماذا فقد الرغبة في الحياة، لماذا الشعب ليس سعيداً، أو لا أحد يهتم، وربما لا أحد يعنيه الأمر، أين ذهب الفرح واختفت مظاهر الحماس والأمل والسعادة من قلوب ووجوه البشر، ما الذي حصل لأرواحهم حتى تذبل بهذا الشكل الجماعي المثير، أين ذهبت الابتسامة والضحكات المجلجلة والفرح، ولكنْ لماذا تريد السلطة منَّا أنْ نكون فرحين، سعداء، بشوشين، مبتسمين، راضين، هل السلطة فرحة وتضحك على الدوام، ما الذي يضحكها، حالنا، ربما، ردة فعلنا على قراراتها وإنجازاتها، ربما، استهتارها بنا، ربما، انتصارها علينا على الدوام، ربما، أم أنَّ ضحكنا وفرحنا هو دليلُ تعافيها وصوابيَّة ما تقوم به، أم أنَّ الأمر لا يعنيها أبداً؟.
العابر في شوارع المدن الكبرى سيجد وجوه أناسٍ عابسة ساهمة شاردة كالحة المعالم لا تبتسم، تمشي بشرودٍ، تكلم نفسها، وتعبر الشارع بلا مبالاة، تعبر واجهة المحال التجاريَّة تقف لحظات وتهز رؤوسها وتنصرف، فراتب الموظف فيها لا يكفي لشراء حذاءٍ جيد، أو 3 فراريج ربما لا يطعمون أسرة، على ماذا يضحك ولمن ولماذا، المقاهي لم تعد تكتظ بالزبائن والعابرين والعشاق والضحكات والنقاشات؟، وإذا ما رأيت أو سمعت جلبة في مقهى فستكون على لعبة شدة أو طاولة ليس إلا.
السلطات المتجهمة في قراراتها وعلاقتها بالناس ستولد شعباً عابساً، كئيباً، موجوعاً، ومتألماً لكل ما يحدث ولا يستطيع حياله فعل شيء، ربما سيقول البعض إنَّ بعض المجتمعات المتحضرة شديدة الرخاء تعاني من السأم والملل والكآبة وربما الانتحار، إنَّه فعلٌ ناتجٌ عن الترف وعدم الحاجة والاكتفاء الكلي، هنا في مجتمعاتنا يحدث العكس فالإحباط ناتجٌ عن فقدان الأمل وغياب الحلم وانسداد الأفق والركض وراء لقمة العيش وبعض حياة.
هنا.. في تلك المدينة النائمة على وقع الانتظار، ذات الشارع والكرسي والمقهى والعابرين، الوجوه البائسة والعيون المترقبة والهذيان الذي لا حدود له، تنبض أصابع يديك بالكآبة، وأنت تنظر إلى الفنجان على الطاولة، بدون لهفة، بدون شغف، الشوارع باردة والأرواح والوجوه، صراخ وعويل وموت بلا بمعنى.
ما يُعيد بعضَ النبض إلى أوردة روحك التي بدأت تذبل، طفلٌ يسألك: لماذ أنت حزين وعيناك دامعتان؟، تمدّ له يدك حانياً وتقول له: أحدهم جرحني.. يمسك بيدك ويقول: أرني جرحك أقبله.