كيف تساعدنا الفلسفة القديمة في علاج مشكلاتنا؟

ثقافة 2023/06/14
...

مؤيد اعاجيبي

يعاني الكثير من الأشخاص حول العالم من مشكلات صحيَّة ونفسيَّة تتطلب علاجاً شاملاً يهتم بالجسد والعقل والروح. في هذا السياق، يعدُّ العلاج بالفلسفة واحداً من الأساليب البديلة المستخدمة لتعزيز الصحة العامَّة عن طريق التأمل في القضايا الفلسفيَّة والروحيَّة، فهو يعتمد على الفكرة الأساسيَّة بأنَّ العقل والروح لهما تأثيرٌ كبيرٌ في صحة الفرد. من أجل فهمٍ عميقٍ للذات والحياة، وتعزيز الوعي والحكمة الشخصيَّة. يشمل العلاج بالفلسفة استكشاف العديد من القضايا المرتبطة بالوجود التاريخي البشري.

يعود تاريخ الفكر العلاجي إلى ما قبل الفلسفة، فإذا عدنا إلى الحضارات العراقيَّة القديمة، نجد العلاجات النفسيَّة تتم عادة على يد الكهنة ورجال الدين. ومع ذلك، قام السومريون بتطوير نهجٍ جديدٍ، إذ صنفوا التعب النفسي كمرض، واستخدموا تعويذات مصحوبة بالموسيقى على الآلات لعلاج تلك الحالات. بفضل هذه الابتكارات، أصبح العلاج النفسي السومري فناً يتمتع بتأثير قوي وإرشادي على المرضى. إذ تشير الرقائق الطينيَّة التي تم اكتشافها إلى أنَّ هذه الطقوس العلاجيَّة كانت دائماً مرتبطة بالنشاطات الدينيَّة. وتركيز السومريين على التراتيل يعكس أهميَّة الكلمة وتأثيرها التوجيهي والإرشادي في المريض. وهذه الحال ذاتها مع الكونفوشيَّة والطاويَّة.
 أما مع وجود الفلسفة نشأ العلاج النفسي من جوهريَّة التساؤلات التي أرقت الإنسان وأرهقت عقله، وأثرت في سلوكه في الحياة. وكانت الإجابات على هذه التساؤلات تأتي عن طريق الفلاسفة، الذين نجحوا بفضل تأملاتهم العميقة وعقولهم الاستثنائيَّة في استنباط الكثير من الحقائق حول الوجود وجوهر الإنسان والمشكلات التي يواجهها. وفي هذا الصدد، يشير الدكتور النشار في كتابه (العلاج بالفلسفة) إلى دور سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد وإلى طريقته العلاجيَّة، إذ قام بتأسيس الفلسفة كعلمٍ للحوار. الذي أكد دائماً أنَّ الحوار هو وسيلة علاجيَّة لأي مشكلة، إذ يجب على الأطراف المشاركة في الحوار أنْ يصلوا إلى حقيقة الموضوع الذي يختلفون حوله، وهذا هو الاتفاق الذي تم تحقيقه منذ بداية الحوار.
ووفقًا للمؤرخ الفرنسي بير هادو في كتابه “الفلسفة طريقة حياة”، يرى أنَّ الهدف الأسمى للفلسفة هو إحداث “تحول عميق في طريقة تصور الفرد للعالم وفي وجوده الشخصي”. في الماضي، لم تكن المدارس الفلسفيَّة القديمة مثل المدرسة الأبيقوريَّة والمدرسة الرواقيَّة تعدُّ الفلسفة مجرد تدريس نظريَّة فقط أو تفسير نصوص، بل رأوها كـ”فن العيش” بحكمة وجوديَّة. لا تُطلب لذاتها، بل كقيمة أداتيَّة من أجل شيء أسمى مثل الفضيلة والسعادة في الحياة اليوميَّة. وطبقاً لهذا ، قدمت المدرسة الرواقيَّة أنموذجاً علاجياً للنفس، يساعد في تنقية العقل من الأوهام والأحكام المشوشة. التي تجعل السكينة النفسيَّة تتحقق عندما يقبل الفرد العالم بما هو عليه، ويترك الانشغال بالماضي والمستقبل. وتركز بشكلٍ خاصٍ على اللحظة الحاليَّة كونها لحظة حقيقة فعليَّة يمتلكها الإنسان عن طريق قبول الحاضر. إذ تعدُّ هذه اللحظة الآنيَّة واقعاً حقيقياً يمتلكه الإنسان، متجاوزةً التفكير في الماضي والتوقعات المستقبليَّة، اللذين يندفعان بعيدًا عن وجود الإنسان الحقيقي إلى وجودٍ وهمي في العقل وهذا يمثل جوهر الرواقيَّة.
 فوفقًا لهذه التعاليم، يكون الطريق إلى اليودايمونيا (السعادة أو الراحة الدائمة) عن طريق السيطرة على الرغبات الشهوانيَّة والخوف من الألم. ويتم ذلك بواسطة استخدام العقل والتفكير لفهم العالم والتصرف وفقاً لما يتوافق مع الطبيعة وعلى الإنسان معرفتها باستخدام عقله، وأنْ يكيف نفسه لها، فلا يوجد شرٌ ينجم من الطبيعة، فالشر له سببٌ واحدٌ هو رذيلة البشر، والرذيلة تنبع من الانفعالات، ولأنَّ الرواقيَّة فلسفة تمتلك عنصراً أو مكوّنّاً سايكولوجياً مهماً، لهذا أصبح الرواقيون مراقبين ثاقبي النظر، سريعي الفهم لطريقة عمل العقل البشري، وبفضل ذلك، أصبح علماء النفس الرواقيون من بين أكثر العلماء تفهماً في العالم القديم. واستمروا في تطوير أساليب وتقنيات تهدف إلى منع ظهور العواطف السلبيَّة وإخمادها، بعدما فشلت المحاولات السابقة في ذلك. وعلى هذا الأساس، اكتشف الرواقيون الطبيعة الحقيقيَّة للانفعالات الضارة، وأولوها أهميَّة كبيرة في محاولة الحد منها. وبالتالي، اتبعوا طرقاً للسيطرة على انفعالات النفوس ورغباتها، وذلك لتحقيق الهدف الأخلاقي الذي يتمثل في حالة الاباثيا، وهي حالة عدم الاكتراث بالمتع والألم، والتي تعدُّ هدفاً رئيساً للإنسان.
فكما قدمت لنا الرواقيَّة نظريَّة في مجال الانفعالات، فهي تكشف لنا أيضاً عن العلاج. كون لا يمكن للإنسان التخلص من آثار الانفعالات السلبيَّة والصمود أمامها إلا بواسطة الفلسفة. فمن المتعارف عليه أنَّ الفلسفة تنتمي إلى الفكر النظري من دون العمل، ولكنْ مع وجود الرواقيَّة المتأخرة، تغيرت الأمور. وأصبحت الفلسفة العمليَّة هي الأساس، وأصبحت طريقة حياة وأسلوباً للعيش في جميع جوانب الحياة. والسبب وراء ذلك هو أنَّ كتابات الفلاسفة يجب أنْ تكون قابلة للتطبيق في السلوك العملي، ويجب أنْ تستخدم كأداة لمساعدة الآخرين وتوجيههم نحو السعادة وطريق الخير.
وهذا نجده في كتابات الرواقيَّة فسينيكا في (عزائه الى هلفيا) دائماً ما يقول “تبقيك الفلسفة آمناً، وسوف تجلب لك الراحة، وإنْ دخلت عقلك حقاً لن يداهمك الحزن”. وفي مكانٍ آخر يذكر سينيكا بأنَّ “الفلسفة تشكّل النفس وتُشيّدها، وتُنظم الحياة وتُرشد السلوك، وتُبين ما يجب فعله وما يجب تركه، وتجلس على دفّة القيادة وتهدي مسارنا ونحن نتأرجح وسط السكينة” وهو ما يؤكده لنا إبكتيتوس في (المحادثات) بأنَّ الفلسفة هي التي ترشد الإنسان إلى الحياة الصـالحة، وترشـده إلى الطريـق الذي يـؤدي إلـى “اليوديمونيا” أي الحيـاة السعيدة الـمزدهرة، لأنها “تعني الاستعداد لمواجهة الأمور التي تُلم بنا”، بمعنى أنَّ الرواقيَّة جعلت منها المخرج الوحيد لكل ما يصيبنا، لما لها من القدرة على مواجهة آلامنا وجميع العلل الأخرى وهدف ممارستها هو من يجعل سلوكنا منظماً خالياً من كل أنواع الأمراض النفسيَّة، لأنها هي من تتحمل واجب حمايتنا. أو كما يقول شيشرون “ما لم يتم علاج الروح، وهو أمرٌ لا يمكن بلوغه إلا بالفلسفة”. لذا ركزت الرواقيَّة على جعل الفيلسوف طبيباً، وهي إشارة واضحة إلى أنّ مهمّة الفيلسوف هي تطبيب الأرواح الموجوعة، واستعادة ثقتها في الحياة قبل الانغماس في فهمها للوجود.
لذا تعدُّ الفلسفة الرواقيَّة حكمة عمليَّة تهدف إلى تحقيق السعادة في الحياة، وتُعدُّ من أبرز المصادر التي تسهم في مجال السيكولوجيا الإيجابيَّة وعلم النفس المعرفي السلوكي. في سياق الحفاظ على الصحة النفسيَّة وتعافيها. لذلك لا ينبغي اختزال الفلسفة إلى قوالب فكريَّة جامدة. بل يلزم تحويل مفاهيمها إلى تجربة عمليَّة تُطبق في حياتنا اليوميَّة، ووفقاً لهذا، تغيرت نظرة الناس تجاه الفلسفة في السنوات الأخيرة، إذ أصبحت تؤثر بصورة شخصيَّة في الكثير منهم، في الماضي كانت الفلسفة لا تحمل أهميَّة كبيرة في الحياة اليوميَّة إذا ما قورنت بالعلوم الصرفة. ومع ذلك، هذا الاعتقاد تغير تدريجياً، ففي سبعينيات القرن الماضي، بدأت الفلسفة تؤثر في عددٍ أكبر من الأشخاص بشكلٍ فردي وغير مسبوق. وذلك يعود إلى استخدام الفلسفة مرَّة أخرى للتخفيف من معاناة الإنسان.