حسن الكعبي
مشكلة الثقافة العراقية تكمن في أنها تدير الظهر لرموزها الثقافية والفنية والفكرية، وكأنها بذلك تعلن شكها بإمكانية وجود رموز ثقافية أو فنية، مع أن هذا أمر غير ممكن، فالثقافة والفن صناعة إنسانية وليست معطيات مسبقة, فهي منتجات تشكلت نتاج صناعة بشرية، وإذا وجدت كمعطيات مسبقة وبنايات ثابتة، فإن الفاعلية البشرية هي التي عملت على إغنائها وتطويرها وتجديدها، ومن ثم فأينما وجدت الثقافة والفنون, لابد من أن يوجد صناعها، وهذا ما يقرره المفهوم الأنثروبولوجي للثقافة ومقاربتها .
إن الظاهرة الثقافية ورموزها، لا يمكن تصديرهما أو التعريف بهما ما لم تكن هناك ماكنة إعلامية تروج لهما، فكون العملية الإبداعية تتخطى محدوديتها وتنطلق إلى فضاءات شاسعة، بمعونة أصالتها فهذا أمر مستحيل وإن وجد فإنه سيحتاج إلى أزمنة بعيدة المنال للتحقق، ومن ثم فإن الرهان على التعريف بالرموز يظل مناطه التسويق الإعلامي، طبعا لا نقصد هنا بالإعلام (الاحترافي أو التقني ) الذي يسوق الزيف ويتواطأ مع أنظمة إنتاج التفاهة وتصديرها، وإنما الإعلام كفاعلية ممارسة من نقاد ومثقفين، هاجسهم اكتشاف الظواهر الثقافية وتعميم فائدتها في النسيج الاجتماعي وضمن دائرة التلقي المعنية بهذه الظواهر .
الثقافة المصرية تعي هذا الدور الإعلامي الفاعل في تسويق الرموز وقد عملت بحرفية عالية، استطاعت من خلالها أن تصنع لرموزها مساحة تتخطى المحلية إلى العالمية، بحيث أن تلك الرموز لم تعد تعني الـ(نحن) الذي أنتجها بل أصبحت تعني الـ(هم ) الذي تعاطى معها وأصبحت ضمن تشكيله الثقافي، وعلى سيبل المثال في هذه الصناعة تلك المفاهيم التي أصبحت لصيقة بتلك الرموز بفعل هذا التداول العابر للثقافات، مثل مفاهيم (الزعيم أو الأسطورة أو الساحر أو مدرسة السايكو دراما) كمفاهيم عرفت برموز فنية في الثقافة المصرية، لم تكن بفعل إجماع جماهيري إنما بفعل صناعة إعلامية، تم الإجماع عليها جماهيريا نتيجة لاستحقاقها.
في الثقافة العراقية توجد رموز لا تقل أهمية عن هذه الرموز العربية ولكنها غيبت أو هي في طريقها إلى التغييب والنسيان مع أهمية ما قدمته من منجزات إبداعية، والأمثلة كثيرة لا نريد أن نتوقف عندها، ونكتفي بالإشارة إلى فنان عراقي عظيم كمثال على هذا التجاهل والنسيان، هو العظيم (قادر بيك )، تلك الشخصية التي قدمها بأداء استثنائي الفنان القدير الراحل ( خليل شوقي )، هي شخصية لا يمكن نسيانها ليس لأنها لم تكن مألوفة في الدراما العراقية أو العربية, بل إن الشخصية حظيت بتجسيدات درامية حتى على المستوى العالمي خصوصا بعد أن قدمها (موليير) للمسرح لتحظى بعد ذلك بتنويعات عدة, فقد استخلص من هذه الشخصية اشتمالاتها الكوميدية أو طابع إنتاجها للشر أو المزيج بين الكوميديا والشر, فالشخصية تحتمل مثل هذا التنويع والازدواجية ولها مصاديق كثيرة في الواقع, لذلك فإن تقديمها في الدراما لا يشكل استثناء يركن إليه, لكن ما يشكل الاستثناء في هذه الشخصية هو أداؤها بالكيفية التي قدمت بها, فالشخصية منبوذة اجتماعيا والممثل الذي يقوم بتجسيدها سيغامر بخسارة جمهوره خصوصا إذا اقترنت تلك الشخصية به واقتران الشخصية بالممثل كان سائدا في إطار مدرسة ستانسلافسكي, وهي مدرسة التقمص الكامل للشخصية وهذا النمط من الأداء كان سائدا في الأوساط الفنية وقد عمل عليه القدير (خليل شوقي ) في تجسيد شخصية البخيل قادر بيك في المسلسل العراقي الشهير بجزأيه (الذئب والنسر وعيون المدينة ) , لكن المفارقة تكمن في أن خليل شوقي لم يترك ذلك الانطباع عند الجمهور في كراهية شخصه كممثل وإنما في كراهية الشخصية التي تقمصها بالكامل, وتلك عبقرية استثنائية في إيصال رسالة الفن التمثيلي .
سبق أن قدمت شخصية البخيل في الدراما العربية, لكن ما حدث هو اقتران الشخصية بالممثل ما أدى إلى كراهيته من قبل جمهوره, فعلى سبيل المثال قدمت الممثلة القديرة ( زوزو ماضي الحكيم ) شخصية المرابية البخيلة في فيلم ( سونيا والمجنون ) المأخوذ عن الرواية الشهيرة ( الجريمة والعقاب ) لديستو فسكي, ولأن الممثلة تنتمي لمدرسة ستانسلافسكي فقد غلبت عليها الشخصية وكانت سببا في انحسار نجوميتها برغم أنها بعد ذلك قدمت دورا مهما في فيلم ( الوحش داخل الإنسان ) وهو دور الأم الطيبة, لكن شخصيتها الأولى كانت مصاحبة لجميع أعمالها, ولا يعني ذلك أن الممثلة فشلت في تقديم دورها بل برعت فيه براعة استثنائية لكن الإشكالية تتعلق بدائرة التلقي وفي الأحكام النقدية آنذاك وهذه الإشكالية تحتاج إلى بحث مستقل .
المقارنة هنا تفيد بأن الراحل خليل شوقي استطاع أن يتخطى إشكالية التلقي السائدة آنذاك, من خلال تقديم الشخصية بسياق مختلف يظهر بشاعتها لكن في الآن ذاته يظهر المكنون الإنساني فيها وبتعابير وتلوين أدائي لا ينسى، فمشاهد كثيرة في المسلسل قدمها شوقي كانت هي ( ماستر سين ) أو المشاهد المؤثرة في المسلسل ولم تنافسها أي مشاهد أخرى على قوة تلك المشاهد كالتي قدمها ( بدري حسون فريد أو تلك التي قدمها مقداد عبد الرضا أو طعمة التميمي ), وبذلك فإن الفنان الراحل خليل شوقي في ما قدمه من شخصيات وليست شخصية قادر بيك وحدها كان يؤسس لمدرسة أداء استثنائية تحتاج إلى وقفات نقدية كثيرة. ألا يستحق مثل هذه الفنان أن تعقد له مقاربات تعرف به عربيا أو عالميا أو بالأقل عراقيا، إذ يندر أن تجد من يعرف خليل شوقي من بين الأجيال الجديدة حتى من كان منهم معنيا بالثقافة والفن ؟ .